تعرّف التداولية بأنها علم استعمال اللغة وفق السياقات التلفظية والمقامات التخاطبية، فهي حدث لغوي تواصلي، وعمل قولي إنجازي بين مخَاطب ومتلقٍ؛ لفهم الظاهرة اللغوية وتفسرها وتأويلها حسب المقاصد والغايات التي يسعى إليها منشئ الخطاب اللساني.
والنص الأدبي بوصفه خطاباً لسانياً يتضمن أثراً تواصلياً تفاعلياً مرتبطاً بسياق الموقف التخاطبي، والمقام التلفظي؛ لذلك تظهر في النصوص والخطابات الأدبية المفاهيم التداولية والإستراتيجيات الإقناعية التأثيرية، وهذه كله راجع إلى الطرائق اللغوية، والتمثلات الذهنية التي يستعين بها الباث؛ لحمل المتلقي على الإنجاز والعمل.
إن تطبيق المفاهيم التداولية على الظاهرة الأدبية يجعل المتلقي شريكاً في إنتاج المعاني الصريحة والمضمرة للنص الأدبي؛ فالجانب التواصلي الوظيفي للغة مرتبط بمتضمنات القول، وطرائق التفكير والاستدلال والاستنباط عند أطراف العملية التخاطبية؛ لهذا يسعى الإجراء التداولي في تحليله للنصوص الأدبية إلى الاهتمام بالجوانب الدلالية والسياقية التي تضبط قصدية النص وأهدافه؛ فالنص الأدبي عملٌ تواصلي، وحدث تخاطبي مظروف بالمقامات التداولية، والسياقات التلفظية الحاضنة لمظاهر التفكير اللغوي، ومظاهر التمثيل الذهني العرفاني في أثناء التفاعل القولي.
ويعدّ الأدب في تصور التداوليين ضرباً من ضروب صناعة القيم الإنسانية المشتركة كالخير والجمال والصدق، وهذا يعني أن الأدب ينشئ قيماً تواصلية مرتبطة باعتقاد المتكلم، وسياق التخاطب، ومقامات التفاعل اللغوي، والرسوم الفنية المتبعة في الإنشاء والكتابة، فالأدب في المقاربة التداولية، هو كشف لمعنى الوجود البشري، وإظهار للتجارب الإنسانية في الزمن، وإبانة عن السلوك الاجتماعي للأفراد والجماعات.
إن العقد القرائي كفيلٌ بنقل الدلالات الضمنية المرتبطة بسياق التلفظ إلى المتلقي؛ فهو ميثاق تواصلي مرتبط بوصف القواعد الموجهة لاستعمال التعبيرات اللفظية في أثناء التفاعل الاجتماعي، فالتعاقدات الثقافية هي أفعال منتجة للتلفظ القولي، وكاشفة للمعنى التداولي للوظيفة التواصلية للغة.
وللأعمال القولية غير المباشرة أثرٌ في فهم المسكوت عنه في الخطاب الأدبي؛ فهي كفيلةٌ ببيان مقصدية الكاتب، وتمييز الصريح من الضمني في الحدث القولي؛ وهذا ما يجعل القارئ بمنزلة الفعل التواصلي الاستدلالي الذي يحيل إلى السياق التفاعلي الاجتماعي للنص الأدبي.
إن المهمة الأساسية للمقاربة التداولية للأدب، هي أن تجعل العمل الأدبي طريقة من طرائق إدراك المعيش اليومي، وضرباً من ضروب التمثلات الذهنية لأطراف العملية التواصلية، ونمطاً من أنماط المعرفة بالواقع وبالذات الإنسانية في كل أحوالها وتصرفاتها؛ فالأدب في الدرس التداولي نقل للتجارب الإنسانية بالكتابة والفن، وبذلك تصبح التجربة الأدبية تجربة حياة جديدة، وعليه، فالتداولية حوارٌ بين المبدع والمتلقي بوساطة النص الأدبي.
لقد جعلت التداولية الأدبية من حاضر التلفظ عملاً تواصلياً مرتبطاً بالفعل التواصلي، وركناً من أركان التفاعل القولي بين المتكلم والمتلقي؛ فحاضر التلفظ في العمل الأدبي ليس حاضر الأنا التلفظية فحسب، بل هو أيضاً حاضر الذات المتلقية للعمل الفني.
ولا يمكن أن نتجاوز القيمة التداولية للملفوظات التخييلية؛ بوصفها صوراً فنية نحيا بها في أثناء التواصل الخطابي؛ فالقول التصويري ضرب من ضروب الاستدلال اللغوي، ومظهر من مظاهر المعاني المضمرة في المقاربة التداولية للأدب، وطريقة من طرائق التفكير عند المتلفظين في حاضر التواصل القولي.
لقد قتلت المناهج البنيوية الأدب، وفصلته عن مقاماته التلفظية وسياقاته التداولية، فأصبح أدباً ميتاً لا حياة فيه، وهذا ما جعل المقاربة التداولية للأدب تنظر في السياقات التواصلية والعلاقات التفاعلية بين أعوان العملية التخاطبية؛ لكي تعيد للأدب حياته التي سلبتها المناهج الشكلانية.
إن التفكير في الأدب هو تفكير في الحياة وتفكير للحياة؛ وهذا ما جعل مصنفات الأدباء وقصائد الشعراء متجددة بتجدد القراءات والتلقي؛ فالأدب مظهر من مظاهر التأمل والاستدلال العقلي والعاطفي، وطريقة من طرائق إدراك الواقع المعيش.
وفي التداولية الأدبية لا بدّ من الاهتمام بعلاقة النظام اللغوي بالإنجاز، وقد أدى الفصل بين هذين المفهومين إلى قصور في بعض المقاربات التداولية؛ فالاعتماد على المقام وحده في تعيين المعاني الضمنية المنجزة في حاضر التلفظ دون النظر في حركة الدلالة اللغوية، وقدرتها على إعادة إنتاج الوقائع، يجعل آليات التفسير والتأويل قاصرة عن إدراك المعاني المضمرة والصريحة في الخطاب الأدبي.
وتعنى التداولية الأدبية، بمفهوم الاستعارة التصويرية، وعلاقته بالمناويل العرفانية الإدراكية، والتجارب الإنسانية؛ فالاستعارة التصويرية إستراتيجية إقناعية تأثيرية، وضرب من ضروب إنتاج المعرفة الأدبية، وطريقة من طرائق التفكير، ورافد من روافد الاستدلال الحجاجي.
وقد تجاوزت التداولية الأدبية التعامل البنيوي مع النص بوصفه بنيةً أو نظاماً مستقلاً عن السِّياق أو المرجع، لتتعامل معه بوصفه خِطاباً لغوياً، أو عملاً قولياً غير منفصل عن المقام والسِّياق.
وتُعنى التداولية الأدبية بالخطابات اللسانية بوصفها أنشطةً لغويةً تواصليةً، وأعمالاً قوليةً إنجازيةً حاملة لآثار التلفظ القولي، فهي تستفيدُ من الدرس اللساني الحديث، ومن نظريات التلفظ والتخاطب في تحليل النصوص الأدبية وغير الأدبية؛ للكشف عن المعاني الظاهرة والمضمرة، والدلالات الضمنية، والاستلزامات الحوارية، والإستراتيجيات الإقناعية، ومظاهر الانسجام والاتساق في استعمال الأعمال القولية، والروابط الحجاجية التي يستعملها المتخاطبون في التواصل اللغوي.
ويُعَدُّ مفهوم العمل اللغوي من أهم المفاهيم التي أقحمتها التداولية في تحليل الخطاب الأدبي، فهو يربط الخطاب بالأثر التواصلي للغة، ويحيل على المعنى الإنجازي للملفوظ، فوظيفة اللغة في نظرية الأعمال اللغوية ليست وصف العالم، بل إن وظيفتها هي إنجاز أعمال قولية مثل: الاستفهام والأمر والوعد وغيرها.
ومن أهم المصطلحات المستعملة في تحليل الخطاب عند منظري التداولية الأدبية، مصطلح (الحِجَاج البلاغي) الذي يرادف فيه الحِجَاج التداول، أو الاستدلال والمنطق، ويعرّفه القاموس الموسوعي للتداولية بأَنَّه: «مجموعةٌ من الترتيبات والإستراتيجيات التي يستعملها المتكلم في الخطاب قصد إقناع سامعيه، وقد أنتجت دراسة الحِجَاج بالمعنى البلاغي أو العادي أعمالاً كثيرة خاصة في أنساق من المنطق الحديث تُسمى الأنساق المنطقية غير الصُّوريّة. . . ضمن ما يُسمى عادة تحليل الخطاب».
وقد تنبّه د. خالد ميلاد إلى قيمة (الإنشاء غير الطلبي) في نظرية أعمال الكلام التداولية، أو ما يسميه (الكلام الذي نعيش به، ونتعامل به في حياتنا اليومية العادية البسيطة)، وقسّمه إلى: أعمال خبرية إثباتية، مولّدة من عامل الاعتقاد بوجود شيء أو عدم وجوده في الكون، وأعمال طلب، مولّدة من عامل الإرادة والرغبة في حصول شيء في الذهن أو في الخارج، وأعمال تعجب، مولّدة من عامل الانفعال والدهش، وأعمال تعبير عن التزامات اجتماعية عامة وخاصة، وعقود صريحة وضمنية، مادية وأخلاقية وعرفية اجتماعية.
وتعدُّ الأعمال القولية في التداولية الأدبية مسلكاً من مسالك صناعة القيم الإنسانية في الحياة اليومية، وبخاصة مبادئ التأدب والمجاملة بوصفها ضرباً من ضروب العلاقات الشخصية المهددة للوجوه في التخاطب القولي.
إن التداولية الأدبية طريقة من طرائق التفكير في الحياة والوجود البشري، ومظهر من مظاهر الاستدلال اللغوي على فعل الزمن في التجارب الإنسانية، وأداة من أدوات إدراك المعيش اليومي بالفن واللغة والخطاب، فهي إذن (الكلام الذي نحيا به).
** **
د.قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
@qalit2010