(1)
.. تدحرج الإناء، ثم انكفأ على فمه، وعلى ظهره سطر انعكاس غيمة في السماء نبوءة ... نبوءة العهد القديم...
ارتفع رأس شيخ القبيلة، بعد أن تفحص خارطة انتشار اللبن المسكوب على الأرض، ثم تراجع وعيناه ترصدان غيمة سوداء في السماء...
تقدم خطوة توسطت فيها قدمه اليسرى اللبن المسكوب، ثم طأطأ رأسه وسار نحو المغيب، وخلفه أثر قدم يسرى داست اللبن ...
تتابع أثر يسراه حتى هبط الليل على الصحراء فارتفع ظل رؤوس خيام خلف مهبط الإناء، وما زالت خارطة اللبن المسكوب تتمدد نحو منزل القبيلة.
(2)
هبط الليل فارتفع ظل رؤوس الخيام المنتشرة في وهدة لثمها الربيع هذا الدهر، ودون رؤوس الخيام رؤوس صغيرة تتمايل مع النسيم تحاول عبثا أن تلامس سقف الظل المهدور على أرض وشى النور بتفاصيلها. انحنت الحشائش يساراً مع نسيم استدار في منزل القبيلة، ثم ولج الخيام يقرؤها خبراً جديداً، فهناك دوماً من يتفقد جيوب العابرين.
وفي قلب الوهدة تنحسر أطراف الخيام عن مرج صغير يتوسط ربوع القبيلة، وتتوسط المرج خيمة كبيرة يعانق رأسها السماء بشموخ...
وأمام مقام شيخ البيد استدبر الرجال النساء حول نيران تسابق سناها إلى أوائل قوافل الندى. أرض خضراء وسماء لا ينقطع ماؤها وليل يتراقص فيه الرجال صفوف تستدبر صفوفاً، ومن خلفهم ، ثنايا بيض لمعت بقبس بسنا النيران، ثنايا لنساء يستدرن بأقدام كالرحى تطحن حشائش الأرض، وأفواههن تردد أهازيج بيضاء تعظم: البيد، والخيل، والقوة، ثم ترمز للرجل بالرمح، فترتفع رماح الرجال وبنادقهم، وتومض السماء بشغف البارود. إنه يوم الفخر وتمجيد الأرض والعرق، والأصل والنسب.
وأمام تلك الصفوف صفوفٌ أخرى حلت في ضيافة شيخ المروج، تستمع لأهازيج المجد المقابلة، وتنتظر دورها لتصدح أهازيجها بما لديها...
كانت رماح قبيلة المروج تتسابق إلى السماء، وأفواه الفخر تجتر من صدر الصحراء أساطير القوة وسحق الأعداء، وشرف الأصل... الشرف الأبدي المقدس.
كانت الصفوف المقابلة، تستمع وتترقب، وتنتظر دورها، وهي متوثبة متربصة، وبيد أحدهم إناء فضي به أثر قديم لا يستطيع تمييزه (هذا الأثر) الا من عرف الصحراء، وتتبع أخبار ضرعها.
لمع بطن الإناء حين تعامد نور القمر على باطنه تماماً، فلاح أثر قديم جداً للبن كان به.
(3)
تهادت قدما طفل إلى المشي بعد عثرات تنتهي بسقوط على الهشيم، ارتفعت أرنبة أنفه بزهو تحت الشمس وهو يسير رويداً، رويداً، لكنهما عادتا إلى التقاطع مرة أخرى، فتعثرتا. سقط أرضاً، ثم تمدد على ظهره وهو يلهج بهمهمات وسبابته الصغيرة تمشط السماء جيئة وذهابا، ثم انبطح فانتهى بصره إلى إناء اللبن الذي اعتاد وضعه على رأسه والصياح بداخله فيتعجب من ضجيج صوته.
امتدت يده الصغيرة إلى الماعون، فحك باطنه بسبابته فانسلخت منه قشرة رقيقة كانت ملتصقة بباطنه منذ زمن طويل. كانت قشرة بيضاء لكنها اسودت بتتابع الغبار الذي توسد بطن ماعون اللبن.
رفع سبابته امام عينيه وهو يتأمل القشرة، ثم لوح بإصبعه في وجه السماء، فهب نسيم بارد فطار الأثر القديم ثم تدحرج بين الهشيم ولم يعد له أثر.
أما هي فقد ارتعش جسدها النحيل عندما هب النسيم، فتطيرت من ذلك، لكنها تجاهلت الأمر، ثم تناهى إلى سمعها صوت قادم، فركضت نحو طفلها والتقطته ثم ركضت به نحو غار تختبئ فيه منذ أن سقط إناء اللبن واصبح اللبن موطئا للعابرين.
دخلت الغار ثم سدته بأغصان شائكة وتكوّمت وصغيرها في حجرها...
انتهت أقدامهم إلى فم الغار الملثم بالشوك، لكن الوشاية كانت قد سبقت اللثام إلى فم الجبل، فهم يعلمون من بداخل الغار...
توقفت أقدامهم العارية دون الشوك، لم ينطق أحد منهم بكلمة. نظروا إليه وهو قادم إليهم على ظهر ناقة يتخطفها سراب البيداء، فحسروا عمائمهم عن جباههم...
توقف ظل الناقة دون الكهف، وعلى ظهر الظل ظل لكائن بشري نحيل كعرجون.
قفز الظل البشري، ثم تقدم نحو الغار...
(4)
صدحت حناجر قبيلة المروج بكل فخر بأساطير أصيلة في بطن الصحراء كأوتاد الخيام، راسية كالجبال. تطايرت عمائم الشبان في السماء، وتراقصت شعور الفتية على أكتاف الليل، ودوى البارود ليفجر صدر السماء برعد القوة والتاريخ.
ومن خلفهم طحنت أقدام النسوة حشائش المرج وهن يتمايلن يحاكين تبختر الفخر الذي بسط ذراعيه في أرض المروج.
ومن خلف النسوة كهلة تجلس متربعة وفي حجرها طفلة تعلمها صنعتها. بسطت الكهلة خرقة سوداء، ثم نثرت فوقها سبع خرزات ودع بيضاء، فترنمت بطلاسم ترددها في كل مرة تمارس فيها طقوس الكهانة واستبصار المستقبل.
وحين نثرت خرزاتها، كانت قبيلة المروج قد أنهت شوطها الأول في مبارزة التاريخ والمجد والشرف الشعرية، فتلفت شيخ المروج خلفه ورصد وجه الكاهنة من بين عشرات الوجوه خلفه، وحين عاد بصره وقعت عينه على قدمه اليسرى، فتطيّر من حادثة قديمة، لكن جسده النحيل سرعان ما استقاوم بعنفوان الفتية رغم كبر سنه، وترقب هو الحشود خلفه ما سيكون بجعبة القبيلة التي حلت في ضيافتهم...
تقدم شيخ القبيلة الأخرى فأنشد، وتبختر بالأصل والتاريخ، ثم قدّم شاعراً اسمه «مبروك» قال بأنه خير شاعر مشى في هذه البيد، فتقدم الشاعر متبختراً وبيده عود اشتعل رأسه فلوح به أمام القبيلة المجاورة، فارتعدت فرائص الكاهنة خلف الجموع المقابلة، وأخذت تبعثر الخرزات (الودْع) يمنة ويسرة وكأنها كانت ترصد حركات الشاعر... حاولت ان تخرج خرزة بعينها من خارطة قطعة القماش السوداء، لكن الخرزة البيضاء تستقر في كل مرة في وسط السواد تماماً.
وفي الأمام وبعد العشرات منها توقف الشاعر عن طوافه بالأرض ثم أنشد قصيدة مجّد فيها قبيلته، ثم تغزل بامرأة مجهولة، ثم تحدث عن قداسة عرق قبيلته وشرف سلالته، وبعدها أغار بثلاثين بيت على قبيلة المروج في حادثة عار ألحقوه بها بعد أن استدرج أحد أفراد قبيلته فتاة من المروج فأوقعها في حبه ثم نال منها بقدر ما يجعل قبيلتها مطئطئة الرأس حتى تسير الجبال يوم الميعاد الإلهي..
تفلّت شبان المروج وانتصبت رماحهم باتجاه الضيوف الأعداء، لكن شيخهم منعهم ففي جعبته ما يلجم به خصومه، فتقدم ينشد شعرا ارتجله من فوره يتحدث فيه عن أن القذاة التي وقعت في ماء المروج قد أزالها بيده، ثم سرد وبفخر بثلاثين بيت مضادة حادثة حرق الغار التي لجأت إليه الآثمة وطفلها، ثم حادثة قتل الشاب الذي استدرجها إلى العار، وأن صفحتهم أصبحت بيضاء...
وأمامه مباشرة، عاد شاعر القبيلة المقابلة للتبختر ثم نظم بيتاً واحدً أخبرهم فيه بأن العار لم يمت بل مازال حياً، لأن الطفل الذي كان في الغار يقف أمامهم الآن ليخبرهم أن نسل أبيه الذي ألحق بهم العار مازال حياً، وأنه خرج من النار ببركات نسب أبيه المقدس، فقال:
ومبروكٌ حي في ظل حنظلة
يوردكم المرّ كما أوردكم اللبنا
وبعد أن أنهى قول بيته لوح بإناء لبن تناوله من الأرض، ثم وضعه على رأسه ساخراً...
وما أن وضع الماعون على رأسه، حتى تسابق البارود والرماح إلى صدور الرجال ثم اصبح العرس معركة حامية الوطيس ...
سقط شيخ المروج بسبب رمح أصاب صدره، ثم تبعه الشيخ المقابل...
اشتد القتل، وأحرقت الخيام، واغتصبت النساء...
وخلف المعركة مازالت الكاهنة تقرأ خارطة الخرز ، فرأت الخرزات تتقد ثم تبعث دخاناً، فتحول الدخان إلى ظلال أشخاص اجتمعوا عند سفح جبل تعرفه وتعرف الغار الذي في سفحه. حكت الظلال ما تبقى من قصة الغار: فكان أن هبط ظل بشري من على ظهر ناقة ثم تقدم نحو الغار... توقف الظل البشري، ثم أحاطت به الظلال من كل مكان...
ارتفعت قدم الظل اليسرى، ثم هبطت على الأرض... تحرك ظل آخر إلى مكان غير بعيد فعاد الظل وبيده ظلٍ لإناء. ناول الإناء للظل الشاحب، فانتعل ظل قدم البشري ظل الإناء.
تقدم ظل رأس الناقة حتى تقاطع مع ظل الرأس البشري الذي ينتعل الإناء، فمسح على رأسها ثم أوقد نارا في رأس غصن يابس.
ارتفع رأس شيخ القبيلة الى السماء وهو يمسك بيده غصناً مشتعلاً، فرأي صقراً في السماء ينقض بعينيه على بصره تماما.
تحول بصر شيخ القبيلة إلى النار في يده، فأوردها فم الغار، ثم راقبوا اضطرامها...
ارتفع ظل رأس الناقة، ثم غادرت الجمع المتربص بالغار، فتبعها الجمع، وبقي الغار مشتعلاً...
مضى وقت فوصل ظل يركض فجأة بجوار الغار. كان ظل امرأة اقتحمت ما تبقى من النار.....
ثم خرجت وبيدها طفل ... ثم عادت واخرجت ظلا تجره بيديها، ثم انحنت وحفرت طويلا ثم دفنت الظل الثاني الذي أخرجته من الغار.
أمسكت بيد الطفل. تحرك الظلان بعيدا عن النار، فقال الظل الأكبر للأصغر:
«أنت مبروك أنْ لم تمسسك النار بسوء»
همهم الظل الاصغر بكلمات غير مفهومة ، ثم توقف والتفت خلفه.
ثم قال الظل الاكبر:
«انت مبروك مادمت معي وستكون شيطانا إن عثروا عليك»
ثم حملته على كتفها فأخذ يضرب ظهرها كي تجد في السير....
انهت ظلال الخرز قص الحكاية فارتفع رأس الكاهنة فوجدت ان الشمس قد أشرقت على المرج الذي احمرّ من كثرة القتل، فأيقظت الطفلة النائمة في حجرها ثم أمرتها أن تبحث عن أحياء بين الجثث المنشرة....
تخطت الطفلة جميع الجثث ثم توجهت إلى جثة بعينها... أخرجت الإناء العالق برأسه ثم تأملت وجهه الملطخ بالدماء من خلال ثقب رصاصة اخترقت الإناء وسألته وهو يحتضر:
- ما اسمك؟
نظر إلى العين الصغيرة التي تنظر إليه من ثقب في إناء اللبن، وحاول جاهداً أن يرفع ذراعه لكن حين ارتفع نصفه هوت يده إلى الأرض فقال بنبرة محتضر:
- اسمك ...
فخرج وجهها من خلف الأناء ثم أجابته:
- اسمي سراب.
لفظ دماً من فمه، ثم انهمرت دموع من عينه اليمنى، وجاهد لسانه فقال:
- كذلك كان اسم أمي.
ثم أغمض عينيه....
عادت الطفلة إلى الكاهنة التي كانت تقف منحنية على عود ي ابس، ثم أخبرتها:
- لم يبق أحد.
أمسكت بيد الطفلة، ثم سارت تتوكأ على نبوءة جديدة.
(5)
بعد مئة عام من تلك المعركة:
في داخل المتحف توقف أحد الطلاب، ثم أشار إلى إناء مثقوب وصرخ ساخراً من زملائه:
- تاريخكم أصبح موثقاً في المتاحف!.
التقط صورة ثم غادر منتشيا.
** **
- فيصل الهذلي