حقق الخليل بن أحمد الفراهيدي كشفا باهرا ومهما حين درس الشعر العربي دراسة إيقاعية، واكتشف أنها تقوم على دوائر عروضية خاصة، وفي كل دائرة عروضية توجد مجموعة من البحور الشعرية التي تنظّم إيقاعية الحراك الشعري العربي.
ولا شك في أن البحور المركبة بحكم تكوّنها من أكثر من تفعيلة واحدة فإنها تعمل في سياق أكثر صعوبة وتعقيدا من البحور الصافية، وهذا الفرق التفعيلي لم يأت اعتباطاً بل لا بد أن يرتبط بحساسية إيقاعية معيّنة، تنعكس بالضرورة على فضاء ثقافي له دلالات خاصة ونوعية لها علاقة بالذكورة والأنوثة، تنسجم مع سلاسة الإيقاع أو تعقيده بما يمكن أن يتلاءم مع طبيعة محدّدة.
يقدّم الدكتور الغذامي أطروحة مهمة قابلة للنقاش والحوار والسجال والنقد والدفاع تتعلق بطبيعة البحور الشعرية الخليلية الستة عشر، إذ يجد أن البحور المركبة الثمانية منها هي بحور ذكورية، أنها مؤلّفة من أكثر من تفعيلة كالبحر الطويل والمديد والبسيط وغيرها، فتعدد التفعيلات في البحر الشعري يجعله على الصعيد الإيقاعي والموسيقي أكثر تعقيداً وتركيبا، مما يستلزم طاقة أكبر في احتواء هذا التعقيد والتفاعل معه وتوفير كفاءة وجدانية وعاطفية أكبر.
في حين يعدّ البحور الثمانية الأخرى الصافية المؤلّفة من تفعيلة واحدة كالكامل والرجز والمتدارك وغيرها بحوراً أنثوية لها طابعها الخاص، إذ إن التفعيلة الواحدة تكون أقل عبئاً على التشكيل والتعبير في البناء الشعري العام للقصيدة، وله في ذلك رؤية تأويلية خاصة قد تحتاج إلى مزيد من التحليل والتفكيك للوصول إلى يقين تامّ بشأنها، فهو يقول في هذا الصدد:
«البحور الثمانية المختارة تحمل سمات الأنوثة. من حيث كونها قابلة للتمدد والتقلّص كشأن الجسد المؤنث الذي هو جسد مرن يزداد وينقص حسب الشرط الحيوي في تولّد الحياة فيه....»
ويجد أن تقسيم البحور على قسمين متساويين لم يكن عبثاً بل هو قائم على ثنائية الذكورة والأنوثة، وعلى الرغم من أن هذه الرؤية الغذامية على رجاحتها في جانب معين منها غير أنها تحتاج إلى براهين كثيرة لتصديقها، ويكفيه أنه اقترح مجالاً معرفياً يصلح للبحث والحوار في هذا الميدان لما له من أهمية ثقافية، يبني عليها أطروحته النقدية الثقافية ويتعامل معها بوصفها حقيقة قارّة.
لدى الغذامي مجموعة من الأسباب تشير بأن نظريته في تقسيم البحور الشعرية على نصف ذكوريّ ونصف أنثوي صحيحة ولا يخالطها أي شكّ، إذ هو يسمّي «البحور الصافية، أي البحور المؤنثة»، والبحور المركبة هي البحور المذكّرة حتماً.
ومن آيات انتماء قصيدة التفعيلة إلى الفضاء الأنثوي بحسب نظرية الغذامي أن هذه القصيدة لا تقبل البحور المركّبة، أو أن الشاعر إذا ما حاول أن يجربها فإنه يجد صعوبة في تركيب الفضاء الإيقاعي على هذا النحو، فالبحور الصافية أكثر سهولة ويسرا وتفاعلا مع الرؤية الأنثوية العامة بما تنطوي عليه من رقة إيقاعية وسلاسة موسيقية:
«لقد حاول الشعراء الرجال إدخال البحور المذكّرة إلى القصيدة الحديثة فلم يفلحوا في ذلك، فالقصيدة الحديثة تأبى التذكّر وهي في صدد التأنث»
لذا نجد أن أنثوية اللغة تبرز أكثر في هذا الشكل الشعري الذي يتحرك في الفضاء بلا إكراهات خارجية تفرض على القصيدة حالة نمطية ضاغطة، فهي على هذا النحو أقرب إلى الفضاء الأنثوي منها إلى الفضاء الذكوري، ويتبيّن ذلك من خلال مجموعة سمات ستجلى فيها الخطاب الشعري في هذا المقام.
يوجه الدكتور الغذامي كلما سنحت له الفرصة خطابا إلى الفضاء الثقافي العربي يبحث ويسأل فيه عن طبيعة:
«المنعطفات والتمفصلات الجوهرية في علاقة المرأة مع اللغة وتحولها من (موضوع) لغوي إلى (ذات) فاعلة، تعرف كيف تفصح عن نفسها، وكيف تدير سياق اللغة من (فحولة) متحكّمة إلى خطاب بياني يجد فيه الضمير المؤنث فضاء للتحرك والتساوق مع التعبير ووجوه الإفصاح.»
وبهذا يمكن أن تكون البحور الشعرية في أصل تكوينها استجابة ذكورية أنثوية متوازية بنصفين، نصف ذكوري حصته البحور المركبة لما تنطوي عليه من نفس ذكوري في التموج الإيقاعي، ونصف أنثوي يتلاءم مع حساسية الرقة العاطفية في الأنثى على نحو تتجلى فيه رؤية الغذامي ، على الرغم من أن هذا الموضوع بحاجة إلى دراسات وبحوث كثيرة تؤكد هذه الحقيقة؛ التي يبدو أنها صائبة في الكثير من منطلقاتها حين نتعامل مع البحر الشعري على أساس هذه الرؤية ونستطلع كثيرا من نماذجها. وهو ما يتبنّاه الدكتور الغذامي في مشروعه النقدي ضمن هذا الكتاب وكتب أخرى له تشتغل على هذا النسق وتتعمق في مساراته... يتبع
** **
د.رائدة العامري - العراق