بعض المثقفين يعيش في برجٍ عاجيٍّ لا يرى في أي عمل ثقافي أو برنامج أدبيّ أو أمسيّة شعريّة أو قصصيّة أي داع لحضورها والتفاعل معها إلا إذا كان هو فارسها أو عريفها الذي لا يشق له فيها غبار.
إنّ واقع العمل الثقافي في مؤسساته المختلفة يبدو مؤلماً وحتى حينما سعت وزارة الثقافة لإشراك المجتمع بالشريك الأدبي والدنوِّ منه والاقتراب من عالمه لم تكن الصورة أكثر جمالاً وأبهى حضوراً.
إنّ المناسبات الثقافية المتعددة والفعاليات المتنوعة والبرامج المتجددة لم تكن قادرة على جذب المتلقي المهتم وغير المهتم، لم تجذب الشعراء لحضور الأمسيات الشعرية، ولم تجذب القصاص للتفاعل مع الأمسيات القصصية ولم تستطع أن تدعو (مدعي الثقافة) لحضور الندوات والمحاضرات، وإذا استثنينا (المناسبات الثقافية الرسمية - والملتقيات التي يكون فيها الحضور هم المشاركون في الفعاليات ...) فإن حضور المثقفين والشعراء والكتاب للفعاليات الثقافية أصبح شبه معدوم، فكم أمسية شعرية لا يتجاوز عدد حضورها أصابع اليدين سواء في الأندية الأدبية أو المراكز الثقافية أو الشريك الأدبي! وكم من أمسية قصصية لا يتجاوز روادها أنامل اليد الواحدة أيّا كان مكانها!
إنه واقع، وهو واقع مؤلم، فالدعوات ترسل للمهتمين والرسائل تبعث لغيرهم ولكن لا حضور، لماذا؟ التساؤل قائم، والإجابات متعددة، والواقع يحكي شيئاً مؤلماً لحضور الفعاليات الثقافية والمناسبات الأدبية، وحين أحاول الإجابة استشهد بمواقف عديدة لتكون طريقاً للإجابة عن هذا التساؤل: لماذا يغيب المهتمون عن حضور الفعاليات الثقافية والأدبية عن حضور أمسية أو ندوة أو محاضرة سوى ما استثنيته أعلاه؟
لا مجال للمجاملة هنا، فالحقيقة تقول: إن حضور فعالية ثقافية ليس من اهتمامات الشعراء ولا الأدباء ولا المثقفين، إن موعد أمسية شعرية يصادف موعد مباراة كرة قدم يمنع الحضور ويبيّن اهتماماتهم الحقيقة، فإذا كانت المباريات تقوم كل يوم في مختلف أرجاء العالم فمتى تقام الأمسيات والمحاضرات الثقافية؟ وإذا كان الحضور لا يعني المثقف إلا إذا كان يعرف الضيف وبينهما صلة، فمتى نتعرف على أسماء جديدة وشعراء شباب بحاجة إلى الدعم والحضور والتشجيع؟
الحضور الثقافي للمناسبات الأدبية أصبح مطلباً وواجباً على المثقفين والأدباء والشعراء، إنّ العمل الثقافي لن ينجح وحيداً من دون حضور ولا دعم معنوي يساعد على استمراره، إن القائمين على العمل الثقافي يعانون من ذلك الخطاب النقدي الذي يوجه لهم حين يقول أحدهم: إن المؤسسات الثقافية لا تنفذ البرامج ولا تقيم المناسبات ولا تدعونا لها، وحين تدعوه المؤسسة أيّاً كانت لا يحضر ولا يتجاوب ويتعذر بحضور زواج ابنة خالة جدة أم جيرانهم الأبعدون! ثم هو يعتب ويلوم المؤسسات الثقافية!
إن واقع (بعض) المثقفين مؤلم جداً، وليغضبوا إذا قلت لهم: إنكم تدّعون الثقافة فقط حينما تكونون فيها مشاركين أو محاضرين وتقدمون خطاباً مليئاً بالمثالية ولكنه كاذب ومخادع، يريد بعض الشعراء أن يسمع الناس شعرهم وكأنه مفرد في عصره، ويسعى بعض القصاص أن ينصت الجمهور لقصصه وكأنه ملهم في وقته، ويريد بعض من ألحقت (الدال) باسمه أن يكون رمزاً في كل مناسبة متحدثاً أو محاوراً أو متسائلاً ولا يحضر مستمعاً! عجبًا، في كل مناسبة يحضرها يتكلم، وفي كل أمسية يعلق، وفي كل محفل تأخذه شهوة الحديث ليكون الأبرز والأمثل بين الحضور.
إن الحديث عن الفعاليات الثقافية والبرامج والأمسيات الأدبية لا يصف واقعها المبذول من أجل الإعداد لها والتنسيق لإبرازها، ولكنك تصدم من هذا الحضور والتفاعل المجتمعي الضعيف وبخاصة من الشعراء والكتاب والنقاد والمثقفين الذي يدّعون أنهم يحرصون كل الحرص عليها ولكن حينما يكونون مشاركين فقط، ويتفاعلون معها حينما يكون ملقين فحسب، هذا الواقع الذي هو غيض من فيض من واقع العمل الثقافي يحتاج إلى مراجعة من المثقفين أنفسهم والشعراء والأدباء جميعهم؛ ليكون العمل الثقافي عملاً اجتماعياً فاعلاً ومشاركاً في رقي الإنسان وتطوير فكره، فلمن يكتب المبدع إذا لم يجد في أمسياته حضوراً فاعلاً وتفاعلاً جميلاً. وهنا لا يقف الحديث عن المناسبات الثقافية فقط، بل حتى المناسبات الاجتماعية والمعايدات التي تعنى بجوّ من الألفة والمحبة والأحاديث الأدبية والثقافية لا يحضر أحد. إن ادعاء الثقافة أمر سهل لكن المشاركة في العمل الثقافي حضوراً وتشجيعاً وتحفيزاً للمبدعين لا يقوم به إلا المثقفون الصادقون!
** **
- د. أحمد اللهيب