بمعنى امنحني موتا أسطوريا أو تراجيديا أو مأساويا، لأعطي أعمالك شارة الخلود…!!
تحت تأثير هذه الخواطر استعرضت حياة فنسنت فان جوخ وكأنه أشدهم إيمانا بهذا المبدأ.
رسائل فان جوخ إلى أخيه «ثيو» تكرس انخراطه العنيف نحو يومه الأخير فلم تكن الحادثة الشهيرة لقطع أذنه اليسرى إلا جزء من ذلك الجري المحموم لليوم الذي اختار فيه تصويب مسدس إلى صدره.
الطبيب «غاشي» الذي سبق وأن رسمه فان جوخ قرر أنه من العبث استخراج الرصاصة! قبلها بأيام كان منكبا لإنهاء لوحته « الغربان وحقول القمح» إن كان القمح يمثل رمزية الحياة فإن الغراب بسحنته السوداء يرسم الظلام والبؤس في شبح الموت الذي ما انفك يطارده ويرفرف فوق جمال الحياة ذات الحقول الذهبية المتموجة. لست الآن بصدد مجابهة حياة فان جوخ، فقط متوسلا بها سعيت لأصدق افتراضي الذي زعمته لمبدأ الحياة هذا، وبه سأتجه نحو الكاتب الفرنسي آلان فورنييه.
1914م برتبة ملازم يقضي في الحرب العالمية الأولى وتُعرف جثته في العام 1991م
فورنييه المولود في فرنسا عام 1886م والذي قضى في أتون الحرب العالمية الأولى عام 1914م في آخر العقد الثاني من عمره، استطاع برواية وحيدة أن يضمن له موطئ قدم في عالم الأدب.
روايته الفرنسية (Le Grand Meaulnes) ترجمت إلى العربية «مولن الطويل» أو «مولن الكبير» فيما استل مترجم الرواية إدوار البستاني من العمل عنوانا إضافيا هو «آفاق الصبا» من هذه الأخيرة أحاول استجلاء عظمة هذه الرواية التي حفظت لفورنييه هذه المكانة.
ليس باليسير أن نضع حدا بائنًا بين حياة فورنييه وسرديته التي أزعم تشرذمه ذاتيا بين شخوصها فيما اكتفت مخيلته بالعودة للوراء نحو عالم المراهقة المرهف المنبثق عن غضاضة الطفولة بخبرة شيخ وذاكرة حاسوبية، في هذه العودة لم يكن مدونا للأحداث واليوميات، لقد كانت رحلة فورنييه إلى ذلك الوراء تحمل عدسة ثلاثية الأبعاد، براعة سردية وعمقا فكريا وخيالا خصبا تمم ذلك تجربته في حياة الحب التي وقف بإزائها ولم يدخلها كما وقف واقعا على نهر السين في احتفالية «يوم الصعود» ليتحدث إلى «إيفون ماري إليز توسان « التي سوف تصبح فيما بعد ضمن مشروعه الروائي «إيفون دي غاليه» فتاة قصر «السابلونيير» وأخت البوهيمي «فرانز» وحلم «مولن» ومحاولة «فرانسوا» البيضاء.
رغم ديناميكية «إيفون غاليه» لمجموع العمل إلا أنها تظل متوارية خلف أستار السرد على بعد مسافة لا تنسى، وهكذا تستمر براعة العمل ممسكة بخيط شخصية إيفون بقوة. ترتفع الطبقات الضبابية تباعا عن الشخصية كلما اقتربنا من نهاية العمل ولا يكاد القارئ يقترب منها بمسافة يكون معها الانكشاف التام لذاتها الإنسانية حتى تكون «إيفون» قد اختفت.
يستشف القارئ عمق شخصية الفتاة الجميلة الغامضة نوعا ما إيفون دي غاليه فمهما كانت للوهلة الأولى شخصية ثانوية فإن فورنييه قد جعلها بمثابة الأساس الذي يتوارى بعد ارتفاع البناء.
«مولن» في انعطافة الضياع يجد الطريق
غاية في البراعة يتخلى الكاتب عن عالم المراهقة ليقترب من عالم الرجولة دون أن يفلت القارئ، يمضي مستوعبا وقع تأثيراته الوصفية والسردية في ذهنية القارئ فلا تكاد تعقد حاجبك دهشة مع النص تجاه تصرف قد يند عن المألوف حتى تعود لمسرح الرواية الذي يخضع لقوانين عالم المراهقة وأخلاقياتها.
جسد فورنييه بلغة قوية شعور الضياع والوحشة التي أحسها «مولن» بفقدانه الطريق بعد أن تردد بين طريقين ليختار أحدهما، كان للاختيار بعدا حاسما في حياته، لم يتريث «مولن» وكأن نزق المراهقة قاده نحو منعطف المغامرة التي لم تكد تلامس قاع الكآبة والوحشة حتى انحازت نحو الفانتازيا والمغامرات السحرية في ممتلكات الضابط العجوز المتقاعد بين لفيف أشجار الصنوبر المتشابكة التي انفرجت عن الطريق الملتوية والعربات القديمة ومظاهر الاحتفال الكرنفالية ليعيش «مولن» أجواء حفلة بطابع أسطوري ويرى لأول مرة من ستصبح هاجس مراهقته «إيفون دي غاليه» فلا يقترب المراهق الذي أصبح مغامرا الآن، فقط يتحسس بمعية القارئ هذا الشعور الغريب يعصف فجأة بكيانه إنه خليط من اللذة والرهبة والغرابة ينسرب إلى «مولن» عبر جمال هذه الفتاة لن يغرق الكاتب في رسم تفاصيل هذا الجمال ولكنه بمقدار ما يتيح لمراهق أن يختبر فتح باب الحب الموصد منذ الطفولة ولن نختلف في المسميات..
الحب الأول، حب المراهقة، الإعجاب..الخ. سوف نتفق لاحقا على تداعيات هذا الحب على خام ذلك المراهق «مولن» إنه بالفعل يفسر الخلجات النفسية لمرحلة عمرية حرجة توازي فيها جنونية الأهداف والطموح، قوة الإخلاص وصدق رغبة الوصول.
«فرانسوا سوريل» الحكاء: هل أحب «إيفون» أيضًا؟!
في مستهل الرواية يلقي فورنييه أمام القارئ مفتاح الحضور البريء والطفولي لشخصية «فرانسوا سوريل» حينما يدعوا «فرانسو ا» والده المدرس في «سانت آغات» شأن سائر التلاميذ : السيد «سوريل» بهذه النبرة يبدأ «فرانسوا سوريل» السارد الفعلي للرواية يرسم ملامحه للقارئ بصوت لا شك ينسجم مع سمت الطفولة - فورنييه هو الآخر كان والده حقيقة أستاذ في مدرسته- المذهل في شخصية «فرانسوا» وفور تأثره بالتلميذ الجديد الفارع الطول الذي لم يكن سوى «مولن الطويل» ، غيابها تحت ظلال الإعجاب بـ «مولن» فهو صديق أصدقاء «مولن» وعدو أعداءه وإذ لم يكن لدى مولن أصدقاء فليس لديه صديق سوى «مولن» فحسب. الإحساس بـ «فرانسوا» الحكاء هو الكشف عن تجليات الطفولة في عالم آخر يتشكل خارج المنزل.
لن يخبرك النص بشيء من هذا الإحساس المتماهي مع النص حتى يغادر مولن «سانت آغات» ليتيح لـ«فرنسوا» اكتشاف جزء من ذاته المتواري خلف «مولن» . يمثل رحيل مولن عن «سانت آغات» انصياع الإنسان باكرا لمجتمعه الصغير فبعد رحيل «مولن» يبدأ «فرانسوا» بتعرف على أعداء الأمس في الصف لتغيب النبرة السردية الحادة بوتيرة تأخذ طابع تفكيك عقدة نفسية عقدت بمؤثرات أخرى، تزول المؤثرات فتنحل العُقد. بين تلامذة الصف تكمن هناك الدوائر الأولى لذات التحالفات التي يعقدها الساسة لاحقا لمقتضيات المصالح المشتركة ومعادلات الضعف والقوة.
في مرحلة متقدمة من حياة «فرانسوا» بشعور المراهقة الصادق يكرس نفسه للجمع بين «إيفون دي غاليه» و صديقه «مولن الطويل» يواصل سعيه ذلك في محاكاة تشبه الضمير الإنساني الصادق ويمضي مدفوعا بأحلام بيضاء للجمع بينهما . وفيما عدا ذلك تعالج الرواية شخصية «فرانسوا» بصعوبة أشد بعد عثوره على الفتاة ليبقى ذهن القارئ كوتر قوس مشدود لمشاعرٍ ما، قد تنشأ بينهما - فرنسوا والفتاة- حتى آخر العمل.
البوهيمي «فرانز» غريب الأطوار
«إيفون» ليس في حبها العميق لأخيها «فرانز» ما يريب إنما جوع «فرانز» نحو الحب هو المريب للقارئ، إذا لم يتفهم ضرورة إشراقات الحب في حياة الإنسان. بتفاعل رقيق مع النص وبقليل من التبصر أيضا سوف نهمس : إننا غريبو الأطوار بلا حب.
لم تكن حفلة الأمس الأسطورية ذات الطابع الغرائبي كما أرادها «فرانز» والمتكشفة عن فتاة «مولن» الجميلة، والتي مسحت كآبة رحلة مولن بشيء من الحبور هي أقسى تضاعيف الكآبة لدى الفتاة التي لم يحضر أخيها «فرانز» للاحتفال الذي أقيم لأجل إعلان خطوبته من «فلانتين» ، فكانت لـ«فرانز» هو الآخر أكثر درجات اليأس والقنوط قربا من الانتحار.
في غابة الصنوبر بين ساحل البحيرة وعقار «السابلونيير» القديم ذات الحفل ينحسر عن مصائر الشخوص المتباينة، حب يبشر بحياة جديدة وفتاة بطابعها الرصين تجنح إلى الركون و الإستقرار وفرانز المخدوع بتوقيع عقد صلح مع الحياة، وفيما تلى هذه الأحلام أصدق لوحة واقعية يرسمها فورنييه لخيباتنا والحياة حينما تكون قرينة الحكم آمالنا الكبيرة.
لعبة البزل بين زكي نجيب محمود و آلان فورنييه
في كتاب «قصة نفس» للمفكر العربي د.زكي نجيب محمود لم يجد بدا لتقريب سيرته الذاتية الفكرية من تجزءات النص بل الأحرى تجزءات نفسه إلى أقانيم ثلاثة لكل أقنوم إنسانه المستقل بهذه الصرامة الانفصامية كان من المؤكد أن الكاتب يقرأ نفسه من خلال خط أفكاره. الخيط الرفيع الذي خولني لربط الكتاب السالف الذكر بعمل آلان فورنييه تشابه التوزيع. هي لعبة بزل يقدمها د. زكي نجيب محمود مرتبة فيما يلقيها فورنييه متناثرة. إذا لنرتب لعبة البزل خاصة فورنييه:
أحب الكاتب «إيفون ماري إليز توسان» في لقاء ضفاف نهر السين، حب «مولن» العاطفي الجموح وحب «فرانسوا» البريء فلم تبادله ذات الشعور ليعود ذات اليوم من العام القادم بإملاءات وجدانية مراهقة بالعثور عليها، ولكن ذلك لم يكن إلا بعد ثمان سنوات بجهود أصدقائه لترتيب هذا اللقاء الذي كان بماض لفتاة وحاضر لأم ذات طفلين. لعلها أحبته حين حضرت اللقاء كما أحبت «إيفون» أخيها «فرانز» بذات الغرابة تجاه أطوار رغباته الملحة.
كتب الفرنسي «دي لامارتين» باقتضاب شديد يفسر مرحلة المراهقة: (كنا إذن.. في هذه السن التي يخوّل لنا فيها أن نخلط الأحلام بالحقائق) في حقبة ما بعد «دي لامارتين» ، أنجز فورنييه روايته ليفسر هذا الاقتضاب.
** **
- عبدالرحمن موالف
@mwaalf