إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه.
من المعلوم أن لجهات اللغة العربية كانت مختلفة، تحتوي على الفصيح والأفصح، والرديء والمستكره، وكانت القبائل العربية معتدة بلهجتها حتى إن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف من أجل التخفيف على العرب في قراءته وتلاوته، ولا شكّ أن لغات العرب متفاوتة في الفصاحة والبلاغة، ولذلك نجد عثمان -رضي الله عنه- قد راعى هذا الجانب في جمعه للقرآن، وقال للجنة الرباعية: «إذا اختلفتم أنتم فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلغتهم» وما ذلك إلا لأن لغة قريش أسهل اللغات وأعذبها وأوضحها وأبينها، وكانت تحتوي على أكثر لغات العرب.
وفي هذا يقول العلاّمة الرافعي -رحمه الله-: «نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه إذ النور جملة واحدة، وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك، لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهره على بواطن أسرارها، فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحويل التركيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا يقضى العجب منه لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود لأنها هي لغتهم التي يعرفونها ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم»(1).
ويرى طه حسين أن نضج اللغة لم يكن في العصر الجاهلي، بل يرى أن أعظم الشعر الجاهلي منتحل، وقد درس القضية دراسة مستفيضة في كتابه «الشعر الجاهلي» الذي أحدث به رجة عنيفة أثارت كثيرين من المحافظين والباحثين فتصدوا للرد عليه. ولم يلبث أن ألف مصنفه «في الأدب الجاهلي» الذي نشره في سنة 1927 وفيه بسط القول في القضية بسطًا أكثر سعة وتفصيلًا؛ إذ زودها ببراهين جديدة، فيقول: «إن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء؛ وإنما هي منتحلة بعد ظهور الإسلام؛ فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدًّا، لا يمثل شيئًا ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي»(2).
ولم تكن قلة الشعر في قريش لقلة مواهبهم، أو لضعف في خيالهم، أو لعجز في قدرتهم على التعبير عما تكنه جوانحهم، ويختلج في أفئدتهم، إنما ترجع قلة الشعر في تلك القبيلة المختارة المتميزة لقلة بواعثه النفسانية، التي لا تكثر إلا في الحروب الطاحنة والمعارك الدامية والثارات الحامية، ولذا يقول المرزوقي في مقدمة شرح المفضليات: «حدثت عن علي بن مهدي الكسروي، وكان منقطعًا إلى آل المنجم أنه قال: كان بالطايف شعر ورواة وليس بالكثير، وإنما كثر الشعر في الحروب الثائرة بين الأحياء، كما كان بين الأوس والخزرج، وفي الوقايع والمفاوز التي ترددوا فيها؛ ولذلك قل شعر قريش؛ لأنه لم يكن بينهم ثائرة»(3).
وقد جاء الكتاب المنزل على أفصح العرب، فأحكمها ذلك الإحكام الذي يدهش له الأعجمي فضلًا عن العربي، وهجر ما سواها من لغات ولهجات سائر القبائل في النثر والشعر.
**__**__**__**__**__**__**
(1)- تاريخ آداب العرب، الرافعي، (ط2، دار الكتاب العربي، بيروت: 1974م) 2 /74 .
(2)- في الأدب الجاهلي «الطبعة الأولى» ص 64.
(3)- شرح المفضليات للمرزوقي المتوفى سنة 421هـ.
** **
- محمد الخنين
aooa14301@