تفتح رواية سادن للكاتب السعودي جريدي المنصوري بثرائها وحمولاتها الدلالية والثقافية والجمالية، المجال واسعًا أمام القراءة والتلقي، وتتعدد مستويات القراءة وتتسع بين قراءة السطح وقراءة العمق.
ولأن الرواية تسير في تمازج فريد بين ثنائيات متوازنة؛ الواقعي والمثيولوجي، الحقيقي والخرافي، المرئي والمتخيل، الخيّر والشرير، المستأنس والمتوحش، كذلك ثنائية المَدَنية الحديثة والبيئة البدوية، والأنا والآخر، فلقد اتكأ الكاتب في نسجها على تقنيات الواقعية السحرية بتجلياتها المدهشة في العرض الشيق، الذي أكسب السرد لذته وجمالياته.
إن كل شيء في الرواية موظف بعناية فائقة، بداية من العنوان بدلالاته الدينية، وما قد يُلصق به من ظلال أسطورية، ولوحة الغلاف بمثيولوجيتها، ذلك البعير المجنح بحمولاته المشتركة بين الواقعي والأسطوري، واللوحة الكتابية الخلفية بتأثيرها الاجتماعي والمعرفي، إلى اسم البطل ( جهار) بظلاله الدينية والتاريخية، وما نُسج حوله من أساطير ومؤثرات اجتماعية وعقدية، ومولده الملفت، ونشأته المختلفة، ونهايته الدراماتكية كذلك، فهي محطات يلفها شيء من الأسطورة، وبرع الكاتب في تقديمها في جو من الواقعية السحرية المدهش، فجهار رابع المعبودات الجاهلية (اللات والعزى ومناة الثالثة)، هو اسم المعبود القديم لقبيلة هوازن التي ينتمي إليها البطل، كذلك اسم البطلة المتفرد محمدة (زعفران كما لقبها جهار) بما لها من فرادة وقداسة في العقل الجمعي لمجتمعها، وكذلك أسطورة عزيز ابن خاله بآثارها النفسية، حيث يتحول فيها الهامش الأسطوري إلى متن والمتن الواقعي إلى هامش، وكثير من أسماء الشخصيات مثل شخصية الشيخ إدريس محفوظ الغطريف، ومجرى الأحداث في تشابكها بعالم الجن والمثيولوجيا.
يتمدد هذا السرد الروائي وينمو بما يحمله من متن واقعي وهامش أسطوري، ويتجاذب المتن والهامش المساحة على امتداد الرواية، أحيانًا يكبر المتن وينكمش الهامش وأحيانًا ينكمش المتن ويكبر الهامش، ومرات يتساوى المتن والهامش؛ حيث يسيران معًا في تمازج متساوٍ لصناعة الحدث ونسج سرديته، كما لاحظنا ذلك فيما أثير حول الجوهرة والثعبان في جبل رباح مع البريطانيين، ومعركة الجن التي دارت ليلة أن بات جهار وصديقه ذيبان في ضيافة العربي، والشيخ الغطريف ووادي النمل وقصة الجمل ومرارة الغراب.
وكما ينسج نسوة البادية نسيجهن في خطوط طولية، تتقاطع معها خطوط عرضية قصيرة، لتشكل متن النسيج بألوانه وتشكلاته الجمالية، هكذا سار الكاتب في نسج روايته بين القصة الإطار التي تسير في منوالها على خيطين طويلين من الواقع والمثيولوجيا وهي حكاية جهار ومحمدة - التي تتقاطع مع تراث قصص الحب العربية الأسطورية - والتي تمثل خيوط النسج الطولية، والأحداث العرضية التي تشكل نسيج الرواية وسرديتها شيئا فشيئا بحمولاتها وجمالياتها إلى أن وصل إلى مشهد النهاية.
والرواية تؤكد امتلاك الكاتب ناصية لغوية ثرية رشيقة، فيها ما فيها من حمولاتٍ ثقافية عربية، وتؤكد أنه ابن بيئة بدوية خبر عاداتها وتقاليدها منذ نعومة أظافره، فهي مختزنة في روحه، محفورة في نفسه، فأنت في سادن لا تستطيع أن تفرق بين جغرافية الإبداع وإبداع الجغرافيا، لقد وظف كل شيء في تلك البيئة بما يخدم تسلسل الأحداث ونموها بمهارة يحسد عليها، فهو يُدخل المتلقي في بيئة الرواية البدوية بجبالها وهضابها وسهولها ووديانها وأناسها وقراها وحيوانها بمختلف أنواعه المستأنس منه والمتوحش وبأسمائه المتنوعة، حتى النباتات وتنوعاتها، ومواسم أمطارها وجفافها، وسيولها ومجاريها وعاداتها وتقاليدها وثقافتها،
وهي بيئة ممهدة لظهور الأساطير حيث الثقافة الشفهية وحياة البداوة، إذ إن الحكايات تروى وتتناقل وتتوارث عبر الأجيال، وعادة يصاحب الأسطورة جوٌّ سحريٌّ وأفعالٌ خارقة، وكل ذلك له دوره في هذا البناء الروائي.
وفي النهاية تتبدل المواقع وتتباين، بين المتن الذي يصبح هامشًا والهامش الذي يصير متنًا، من خلال التطور المجتمعي والتغير الذي أصاب المجتمع البدوي، فتخرج الثقافة البدوية بمثيولوجيتها إلى الهامش، لكن يغيب معها ما هو روحاني وألفة إنسانية، ويحل محلها مجتمع المدنية بماديته وبرودة حوائطه الإسمنتية التي حولت الناس إلى جزر معزولة.
ولعل شخصية العمة سلمى، تعد أنموذجًا لهذا التغير والنزوح الإنساني نحو حياة المدينة، حيث فضلت زواج ابنتها من ابن المدينة المتحضر صاحب المركز والمنصب، على ابن أخيها الذي نشأ مع ابنتها، ونشأت معهما قصة الحب الحميمة، بل إنها احتالت لتبعد جهار عن محمدة، بعدما كانت تدافع في الماضي عنه، وتصر على أن تكون ابنتها له.
ولم يكن الأمر غريبًا عندما عاد البطل جهار إلى قريته بعد السنوات الطوال ليجد المجتمع البدوي قد جفت حميميته، وغاضت روحانياته، واختفى فيما اختفى كثير من ألفته وتماسكه مع ظهور شرايين الإسفلت، وغابات الإسمنت، وكثرة المواتير والآلات، كأنه ترك المدينة وراءه، ليجدها بمظاهرها وسلبياتها مكان قريته.
وثنائية الأنا والآخر وإن جاءت هامشية، حيث تمثلت في ثلاثة نماذج مختلفة؛ المعلمين العرب بحمولاتهم الثقافية، وأغلبها إيجابي، لأنها تحت مظلة ثقافة واحدة، ومن معين ومشرب واحد، وإن تباينت طرائقها وتنوعت هوامشها، وزوجة جهار المغربية التي انجبت له (محمد وزعفران) وهما اسمان مستمدان من اسم محبوبته، والمستكشفين الأوربيين، ويمثلهم في الرواية البريطانيان اللذان يجوبان القفار بحثًا عن معالمها واستكشافًا لعوالمها وتنوعاتها، ونهبًا لآثارها وكنوزها، - مما دفع الكاتب إلى التعبير عن الارتياب في جولاتهم بحرية عبر الديار والبلاد العربية، على لسان عايض عواض الذي يمثل تيار الوعي والحكمة على امتداد الرواية-، وإن كان لهما دورهما الإيجابي التنويري في دفع جهار إلى التعلم واكتساب المعرفة،
وتتجلى الواقعية السحرية ودراميتها في تصوير الكاتب مشهد النهاية، الذي يليق بنهاية بطل أسطوري، حيث يعيدنا إلى بداية السرد عن طريق تقنية الفلاش باك، إنه في البداية يغادر من أجلها، وها هو ذا في النهاية يخلد في قلبها ولا يغادر.
** **
د. أحمد نبوي