استضافت جامعة الأمير سطام بالخرج، على مسرح كلية الطب، جلسة حوارية مميزة قدمتها الأستاذة سارة الصراف بالتعاون مع دارة الملك عبد العزيز. تمحور موضوعها حول جانب ثقافي وتاريخي مهم من سيرة الدكتور أحمد سوسة، الذي شغل منصب رئيس البعثة العراقية خلال فترة مشروع الخرج.
ورغم أن فترة توليه لهذا المنصب كانت قصيرة نسبيًا، إلا أنها تركت بصمة عميقة في علاقته بالمملكة العربية السعودية، مما يعكس التأثير الثقافي المتبادل بين البلدين.
لقد عُرِف عن الدكتور سوسة حرصه على التواصل مع الجهات الثقافية السعودية منذ وقت مبكر، حيث أرسل خطابًا إلى إبراهيم بن معمر، الوزير المفوض في العراق عام 1933م، في خطوة تعكس فهمه لأهمية التواصل الثقافي في تعزيز العلاقات الثنائية. هذا التواصل جاء قبل قدومه إلى المملكة بأربع سنوات، مما يعكس تقديره العميق للقيمة الثقافية والتاريخية لهذه العلاقة.
وعندما أتيحت له الفرصة للعمل في المملكة، كان مشروع الخرج الزراعي محطته الأولى، حيث ساهم في تعزيز الروابط الثقافية بين العراق والسعودية من خلال المشاريع المشتركة.
الجلسة لم تقتصر فقط على استعراض الجانب التاريخي، بل شملت أيضًا عرض مجموعة من الصور النادرة والمقتنيات القديمة والأدوات المستخدمة خلال تلك الفترة، مما يعكس اهتمام الدكتور سوسة بالتوثيق الدقيق للأحداث. وهذا الاهتمام يعكس وعيه العميق بأهمية الحفاظ على التراث الثقافي المشترك بين الدول، والذي يُعد تعبيرًا عن التلاحم بين البلدين، ودليلاً ملموسًا على شغفه بالتاريخ والتوثيق.
كما تطرقت الجلسة أيضًا إلى أبعاد متعددة من قصة سوسة ومشروع الخرج، مما فتح آفاقًا جديدة للمهتمين والمختصين في المجالات التاريخية والثقافية والعلمية، وقد تم اختيار مدينة الخرج لاحتضان هذه الجلسة؛ نظرًا لدورها التاريخي كموقع للمشروع الزراعي، الذي انطلق في عام 1358 هـ بتوجيه من الملك عبد العزيز -رحمه الله-، وبإشراف الوزير عبد الله بن سليمان. هذا المشروع شهد تفاعلًا كبيرًا بين البعثات الأجنبية والمحلية، حيث لم تكن هذه البعثات مجرد جهود تنموية، بل شكلت منصة لتبادل الأفكار الثقافية والعلمية التي أثرت في تطور المملكة.
وجرت مداخلات من المهتمين والمختصين، حيث تحدث الأستاذ عبد اللطيف المهيني عن أهمية المشروع الزراعي وكيف كانت بداياته، وتناول الدكتور عبد الله الرويس الخبرات التي نقلتها البعثة العراقية لمشروع الخرج الزراعي، والمجتمع المحلي في الخرج. وبدورها أشارت الدكتورة مريم العتيبي إلى كيفية استفادة الباحثين من تاريخ الخرج من أعمال أحمد سوسة، واصفة أرشيفه بأنه «صيد ثمين» لما يحتويه من وثائق قديمة وقيمة.
وفي هذا السياق نطرح مقترحًا بإنشاء مقر دائم يُعنى بمقتنيات المشروع الزراعي في الخرج، بالتعاون بين الجامعة ودارة الملك عبد العزيز وعدة جهات ثقافية ذات علاقة. يمكن أن يصبح هذا المقر وجهة للباحثين والزوار، الراغبين في استكشاف العمق الثقافي والتاريخي للمشروع كجزء من الجهود الوطنية في توثيق التراث.
إن دارة الملك عبد العزيز تسعى اليوم إلى تحقيق تحول نوعي في الحفاظ على التراث الوطني، وتعزيز دوره في بناء الهوية الثقافية للمملكة، وهذا السعي يتماشى مع الجهود العالمية في توثيق التاريخ الثقافي للشعوب، وما زلنا نتطلع إلى المزيد من اللقاءات الثقافية المستقبلية مع المختصين والمهتمين؛ نظرًا لأهمية مثل هذه اللقاءات في تعزيز فهمنا للتاريخ الثقافي لمدينة الخرج ومشروعها الزراعي، الذي كان رمزًا للتعاون بين العلم والثقافة.
لم يكن مشروع الخرج مجرد مشروع زراعي اقتصادي، بل كان أيضًا ملتقى للعلم والمعرفة والثقافة، فقد ساهم في بناء منارة ثقافية للتعليم والتطوير، حيث تم إنشاء المدرسة الوزيرية الخاصة، التي نُسبت إلى الوزير عبد الله بن سليمان، والتي تولى إدارتها الأديب الشيخ حمد الجاسر لمدة عام، وعلى إثرها افتتحت أول مدرسة نظامية، وهي المدرسة السعودية الابتدائية (ثمامة بن أثال حاليًا) التي تولى إدارتها الأديب عبد الكريم الجهيمان، مما أسهم بشكل فعال في نشر المعرفة والتعليم بين منتسبي المشروع. كانت هذه الجهود التعليمية جزءًا من حركة نهضوية تسعى لتطوير الفكر والعلم بالمنطقة.
وهناك العديد من اللقاءات والبرامج المرتبطة بالمشروع، بالإضافة إلى مجموعة من المؤلفات والدراسات التي تناولته، ومن بين هذه المؤلفات: كتاب «مشروع الخرج الزراعي» للمؤلف أ.عبد العزيز البراك، وكتاب «هذه بلادنا: الخرج» للأستاذ سعد بن عبد الرحمن الدريهم -رحمه الله-، وكتاب «إقليم الخرج» للدكتور فرحان الجعيدي. كما ذكر الدكتور عبد الله الرويس، المتخصص في التاريخ مجموعة من الدراسات العلمية، التي تناولت الزراعة في عهد الملك عبد العزيز، مثل: دراسة الأستاذة دلال بنت زيد المعدي بعنوان «الزراعة في عهد الملك عبد العزيز: دراسة تاريخية حضارية»، والتي صدرت ضمن سلسلة الرسائل الجامعية بإشراف دارة الملك عبد العزيز. وأيضًا دراسة الأستاذة سارة عبد الله العيسى بعنوان «منطقة الخرج في عهد الملك عبد العزيز: دراسة لأهميتها الإستراتيجية ومشاريع التطوير».
الجلسة الحوارية لم تكن مجرد عرض تاريخي، بل كانت مزجًا متقنًا بين التاريخ والثقافة، فتحت المجال للتفكير في كيفية الاستفادة من هذا التراث الثقافي العريق في إطار رؤية المملكة (2030م) الساعية إلى تعزيز الهوية الوطنية من خلال استثمار التراث الثقافي والتاريخي للمملكة كعنصر أساس في تحقيق التنمية المستدامة.
وفي الختام، نتوجه بالشكر والتقدير لجامعة الأمير سطام، ودارة الملك عبد العزيزعلى جهودهما الكبيرة في تسليط الضوء على الشخصيات والمشاريع التي شكلت جزءًا مهمًا من التاريخ الثقافي للمملكة، فمثل هذه الجهود لا تساهم فقط في توثيق الماضي، بل تساعد في بناء مستقبل يرتكز على قيم الأصالة والانفتاح الثقافي.
** **
- علي بن سليمان الدريهم