ما علاقة نظريات المعرفة في تشكيل بنية الإنسان وتطوّر رؤيته من الناحية القيمية؟ وكيف يكون التعاطي من خلالها مع مجريات الواقع من حيث السلوك والأبعاد الأخلاقية التي تنعكس سلباً أو إيجاباً في بناء منظومته الثقافية والاجتماعية؟ هل أن ذهنية الكائن البشري الحالي مستعدة لاستقراء المفاهيم الجدلية بسياقاتها المحتشدة بالسؤال والمنهمكة في تعيين نتائجها خصوصاً بعد هذا الأوان المعلوماتي الذي أحاط بصيرورة الفرد واستلب ماهيته؟ ما هي طبيعة الوحدة العضوية المجتمعية بحسب تعبير هيجل حيال عصر النانو؟ وكيف تكون قراءتها للمآل؟ هل أن سيطرة التقانات الإلكترونية بددت من جوهرها لتقلل من قدرتها على التماهي مع الأسئلة التي تعنى بالمصير في هذا العالم الصاخب؟ وهل أن العقلية البشرية قادرة على تغيير مسارها الحياتي واستجلاء الراهن تبعا لإضاءة وجودها؟ هل أن الفلسفة بحمولتها الديالكتيكية ومدونتها الطليعية هامة في أن تعطي بيانا واضحا يفي حق المخاض المستكن في كينونة الفرد؟ وهل ثمة نزوع فكري يستوطن ذهنية الجنس البشري ليستشف كنه السؤال وغرض معطياته؟ ولعلي إزاء سؤال أكثر حيوية حيال هذا الواقع، هل أن الذهنية العربية لما تزل تتردد نحو الاستفهامات الرائية التي تظهر حقيقة الوجود؟ وإذا كانت كذلك من أين لها أن تستمد جديتها اذا كانت هناك قطيعة بينها وبين عتبات الدرس والمنهج والمباحث الفكرية؟ وهل أن القطيعة لها نسق متوار ناجم عن متوالية الأثر وما تتوالد عبرها من خشية؟ هل ما زال العالم مسور بأسلاك لاهوتية متوارثة أو سياسية أنية تحد من حركته المعرفية؟ كيف لنا أن نعيد ثقة الكائن البشري بنفسه بعد افتضاح خصوصيته وانتهاك عوالمه المخفية عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل أن الاعتبارات القيمية الإنسانية ما زالت حاضرة بعد هذا الانشطار التكنوثقافي الذي زعزع جوانية الإنسان وكشف محتواه وأصبح مساقا عن طريق نتائج لغة الماكنة وما ينتجه الصراع الاقتصادي والأجندات السياسية المستحدثة؟ كيف لنا أن نعيد تهيئته معرفياً بعد الزخم التكنلوجي الذي انتشل كنهه وحدد خطواته؟ هل أن فاعلية العقل البشري العربي تمتلك المؤهل الحقيقي لاستنطاق الأزمات الدائرة المستقرّة في هاجسه أم أن مرثون (الريلز) وغلبة البرامجيات الذكية كبّلت قدرته على توسعة مدركاته الحسية وتنشيط خلايا المخ المعنية بعملياته الحيوية؟ هل ثمة عدم إيجابي يلوح في الأفق غايته الشك الذيتسلل في مزاغل النفس البشرية فيسعى لإضاءة قيمة الإنسان؟
لا شك، أن الأثر الذي تركته الثورة المعلوماتية في بناء نسيج الوحدة الثقافية المكونة لطبيعة المجتمعات العربية لها نتائجها الجلية على وعي الإنسان وفطرته حيال السؤال الوجودي الذي رافقه منذ ولادته إلى أن يفنى، فقد قوّضت من هاجسه وطريقة استجابته لمستجدات الراهن، ولعلي أجد أن التغييب أو الاندثار الذي صاحب هوية الكائن البشري له دوافعه وقد أكون مقتربا من الحقيقة عندما أقول إن استبعاد الدرس الفلسفي في مجتمعاتنا العربية من أهم الأسباب التي شكلت فرقة بين الذات البشرية بوصفها عنصرا مستقطبا للصراعات الدائرة ومدى دقة هذه الذات وحصافة مقرراتها إزاء الخطر الوجودي وبين استيعابها لمستحدثات الواقع العلمية، وهنا يجب علينا أن نوضح حقيقة فاعلة تربّت عليها الذهنية العربية وشكلت علامة مهمة في نموها السيكولوجي والسوسيولوجي أيضا، بأن ثمة تأهبا بل قطيعة بين الفلسفة بعيدا عن تعريفاتها الإغريقية وما تدخره من مفاهيم كونية وبين تركيبة العربي الفكرية، وهنا يبان التأثير جرّاء هذا التأهب من خلال تقرير مصيره فضلاً عن اعتماد هذا المصير للتعاليم الغيبية التي يوكل قدره لها، وقد أجد أن ارتباطه الجوهري لهذه التعاليم والأحكام يخضع للطريقة التي تربى عليها فهو أبن بيئته وهذا لا جدال عليه، على الرغم من ذلك سطعت أسماء معرفية مهمة في المشهد العربي لها ماكنتها الجدلية الفخمة ومشغلها العامر، لكني هنا أتحدث عن منظومة مجتمعية متكاملة حيال نزوعها الفعلي لماهية السؤال وغرضه الاستقرائي، وهنا تكون الفطرة الناشئة لصيرورة الوعي البشري قد تقاعست نتيجة الطقس العام لتخلق حالة من الوهن الفكري حيال أسئلة الواقع فتسند جميع العقبات التي يتعرض لها الإنسان إلى تأويلات جاهزة ومسوغات تحدّ من قابليته على التأمل في قدره، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن إنسان هذا العالم على الرغم من تحضّر مستلزمات الحياة التي تطالع يومه وتذليل عقباتها الدارجة عن طريق الاختراعات الالكترونية المستخدمة لكنه لا يقوى على أن يستفهم عن معناه أو عن سبب خشيته من القادم أو عن خضوعه لمسلمات أو حتميات ترسم له طريقه.
حقيقة الأمر، أن الشعور الجواني بالعدم قد تفاقم في دواخل النفس البشرية وفي هذا العصر تحديدا، العدم الذي يفضي إلى مآلات سائبة لينعكس هذا على المقدرة المعرفية له وكيفية الإمساك بحقيقة وجوده، وقد تشترك مسببات أخرى في هذا الزمن الضاج والمعبأ بالابتكارات الذكية ومن أهمها هو ارتباط الكائن البشري بوصلات وهمية ذهنية متصلة بوسائل التواصل الاجتماعي والألعاب البرمجية وأجهزة اللهو المتحَكِم بها عن بعد عبر منظم سيطرة، ليكون وجوده افتراضياً على سطح هذه الأرض، ولعلي أجد أن صلته بهذه التقانات أصبحت كلية وقيمية، بل صار يضاء من خلال حسابه الرسمي وما تتخلله من أخبار وأنشطة تودع على الجدار، فقد أضحت إرادته خائرة إزاء تجليات صورة الإنسان الحقيقية، هائمة في تداعيات اللوثة البرامجية التي جرّدت وظيفة العقل في استقراء الأسئلة الكونية وتفكيك أنساقها واستقصاء غايتها، وهنا يكون تهيئة الإنسان جاءت على وفق مقدرات هذا العالم الجديد والطقس العام تبعاً لحيثياته الصناعية والاجتماعية والعلمية أيضا، لذا أجد أن الواعز الحقيقي في إعادة إنتاج كائن بشري (يفكر) في هذا الأوان الحالي يحتاج إلى مراكز بحثية تعنى بسياقه الإنثروبولوجي الذي يتمخض عن تعريف المضامين والمفاهيم الحياتية المحيطة به، ليكون تفصيل مراحل نموّه واضحاً حيال الباعث المؤهل في بنائه الفكري والإنساني.
** **
ميثم الخزرجي - العراق