يمتد الشعر العربي قرونا راسخة في ذاكرة الإنسان العربي، وهذا الامتداد تمثلت فيه عدد من التحولات الشعرية والتوهجّات الإبداعية منذ تصورنا لمهاده الأول وهو شعر ما قبل الإسلام، على الرغم من أني أعتقد أنّه ليس الانطلاقة الأولى لهذا الشعر، ولكنه التصور الأمثل الذي وصلنا عن هذا الفن الخالد.
ومنذ تلك اللحظة التي نعدّها انطلاقة برزت أسماء شعريّة وتوهجتْ قصائد أصبحت علامةً بارزة في ذاكرتنا الإبداعية، فمنذ (قفا نبك) ونحن نبكي مع امرئ القيس ولو لم نقف معه، ونتألم لطرفة لشكواه من ابن عمه ولو لم نبكِ معه، ونصوغ الحكمة مع زهير وإن لم نعرف هرم بن سنان ولا جوده ولا كرمه، وننحت مع الفرزدق ونغرف مع جرير ونشرب مع الأخطل ولم نكن ذات يوم ندرك مصداقية ما بينهم من النقائض والهجاء، ونأتي إلى قمة الشعر العربي في العصر العباسي ونقف شامخين لهذا العطاء المتدفق والمتنوع من (كأن مثار النقع) لبشار الأعمى إلى ( الفاتك اللهج ) لسلم الخاسر، وعدّ معي أبا نواس الذي (ما ضر لو كان جلس)، وأبو العتاهية الذي صاغ كلامه شعرا، وحين جاء أبو تمام نهض بالشعر العربي وأبلغه مبلغه من الرقي لتكون (السيف أصدق أنباء من الكتب) نبأه الجميل، وسار على نهجه البحتري بسلاسل الذهب فقال: (صنتُ نفسي عمّا يدنّس نفسي)، ثم انتهى بنا المطاف إلى قمة الشعر المتنبي الذي قتل الحكمة في قلوبنا، فأصبحنا لا نجد ما نقول وقد قال ما نريد أن نقول، فملأ الدنيا وشغل الناس. وبين هؤلاء قامات شعرية (العباس بن الأحنف، وابن الرومي، والبهاء زهير، والشريف الرضي، وأبو العلاء المعري) وقصائد خالدة (ودعته وبودي لو يودعني، وعلو في الحياة وفي الممات، حكم المنية في البرية جاري... وغيرها) ما زلنا نرددها بين الفينة والأخرى، وما زلنا نقرأها في وسائل التواصل ونسمعها.
وحين جاء العصر الحديث لم تكن ( مدرسة الإحياء) إلا على نهج من سبق فقالت وأبدعت، وسارت التحولات رويدا رويدا من الديوان إلى أبولو، حتى جاء شعراء الحداثة أو شعراء التفعيلة، سمّهمْ ما شئتَ، فكانت ومضة الإيقاع بين يديّ نازك الملائكة وبدر شاكر السياب حداثتهما، وكانت حداثة الأسطورة بين أنامل السياب والبياتي، وكان الحوار القصصي بين شفتي صلاح عبدالصبور وأمل دنقل حداثة لهما، وكان سحر اللغة عند نزار قباني الذي أدخل لغة مختلفة المعالم والحقول حداثة له، وأتى الغموض عند أدونيس ليكون حاجزا بينه وبين المتلقي، ويبقى محمود درويش قمة ولكن من يقرأه بحداثة مختلفة متنوعة.
ولكننا الآن نقرأ ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي وما يقال في اللقاءات والحوارات التي تجرى في المنابر المصوّرة بأنواعها، ليظهر تساؤل أمامي: هل مات شعراء الحداثة مع موتها؟ وهل أثبت الشعر التناظري في قمته التي تمثلت في الشعر العباسي أنه الأصلح والأنسب للعقل العربي والثقافة العربية، فبين الحين والآخر أقرأ: من جميل ما قال البحتري، ومن روائع أبي تمام، ومن حكم المتنبي. ولكنني نادرا ما أجد استشهادا لشعراء الحداثة، فهل كانت الحداثة وشعراؤها مجرد مرحلة وانتهت.
إنّ العودة للشعر العباسي بخاصةٍ تمثل نقطة تساؤلٍ مهمة في مدى حاجة العقل العربي إلى الاقتراب من تراثه في قمته، ومدى قدرة شعر تلك الفترة على التجاوب مع حاجات الإنسان العربي ومشاعره وأحاسيسه وانفعالاته، ولا شك أنّ عودة الشعر التناظري الآن وحضوره القوي مقارنة بشعر التفعيلة وغيابها شبه التدريجي عن ذائقة المتلقي الذي أصبح شريكا في تداول الشعر ونشره في وسائل التواصل الاجتماعي يمثل ظاهرة ثقافية تستحق التأمل، وقضية أدبيّة ينبغي أنْ تدرس في ظل معطيات البحث العلمي، لنتعرف على أسباب عودة الذائقة العربية في عصر ما بعد الحداثة إلى شعر يفصل بينها وبينه 1000 سنة؛ ليكون معبرا عن مكنوناتها ومقاربا لأحلامها وكاشفا عن مشاعرها، وهذا الغياب لشعر هو نتاج مرحلة قريبة زمنيا وفكريا وثقافيا عن اختيار هذه الذائقة.
** **
- د. أحمد اللهيب