عندما يموت الشاعر يفقد العالم جزءا من نبضه وإحساسه ومشاعره، وتردد العصافير أبياته لحنايا الشجر وضوء القمر، ونسياب النهر، عندما يموت الشاعر يُشرع للجميع البكاء وترديد قصائده صباح مساء، حتى ولو مات الشاعر بعيدا عن قصائده إلا أن قصائده تنبت في حقول قلوبنا وفي فصول حياتنا ومواسم حنين،
وتنطفئ له منارة كبرى كانت ملاذ للعاشقين ونبراس للمتذوقين ومدرسة للمبتدئين ، وكم هو مؤلم كسر الروح ولوعة الفقد وجزع النفس ، ومرارة الرحيل، رحل الأمير بدر بن عبدالمحسن رحمه الله تاركا لنا أرث أدبي زاخر وتجربة شعرية كبيرة غنية عميقة بكل تفاصيلها ومحاصيلها، بكل اسقاطاتها وتشكيلاتها ورموزها وإيحاءاتها ومن نصوصه الأخيرة وفي أزمته الصحية قال مخاطباً اخوه الامير سعود:
«لابدها ياسعود بتغيب شمسي
ذي سنةٍ رب الخلايق فرضها
و لعلها حريتي بعد حبسي
و لعلي ألقى عند ربي عوضها»
وكأنه هنا أمتداد لقوله في نص «عبت السافر»:
«أنا سجين الحال.. مهما تسليت
وانا الطليق وكل شيٍٍ قضبني
حريتي لاعل.. يا كود ياليت
ما شفت حيٍٍ جاد لي ماسلبني»
لقد مثل الأمير بدر بن عبدالمحسن رحمه الله مدرسة فكرية كبرى متكاملة الأبعاد والزوايا، وموسوعة شعرية مترامية الاطراف والرؤى تاركا بصماته المؤثرة على خارطة الشعر
كيف ولا وهو البدر شاعر العصر، طويل القامة شعرا سامق المعنى باسق المغنى وارف العبارة ، يتهافت على جمر مشاعره العشاق ويترنم في كلماته عابري الحياة وتعشوشب كلماته في تلافيف الروح ويستعذب نمير حرفه ظامي الوجد وفرات معانيه عطشى الحب ، التقيت به رحمه الله وكنا اثنين لا ثالث معنا ، سوى حكاياته عن الشعر واتجاهاته عن الأدب ، ووجدته «الإنسان « بكل ما تحمله هذه الكلمة من إنسانية وعطف ولين وتواضع ، أذاب في داخلي ربكة القاء وهيبة الشخصية ودهشة اللحظة وكان في حديثه رحمه الله متصلا بالموروث ولم ينفصل عنه وأدهشني بإلمامه للقصائد النبطية القديمة وحفظه لها ومن ضمن استشهاداته بيت شهير للشاعر عبدالله بن سبيل الذي توفي في أواخر القرن الثالث عشر الهجري يقول فيها «شرهه يدي ماكل عـودٍ تعصّـاه..
ولاهي على عوج العصي محدوده» فنجد البدر هنا لم ينفصل عن الشعراء الذين سبقوه مؤمنا أن النتاج الأدبي عموما تراكمي متصل بعضه في بعض ، وأن الشاعر يجب عليه استلهام التاريخ بكل جوانبه لينطلق من أرضية صلبة نحو فضاء شاسع ، وسألني عن معرض الكتاب وقد كنت أنا عائدا من المعرض في حينها ، وأشاد بأهميته وضرورته لهذا الجيل الذي أثنى عليه بثقافته ووعيه ونتاجه الأدبي والشعري ، وبعد ذلك تشرفت بإهداءة كتابي «مسارب ضوء البدر» وتصفحه وأثنى عليه ووقع عليه بعبارة عميقة أنيقة أسعدتني وجعلت الفرح يرفرف علي ما حييت يقول فيها «أخي إبراهيم لك الشكر الكثيف
بأن جعلتني اتعرف علي أكثر»
أنه الفكر عندما يختزل المعنى بأدق العبارات وودق المشاعر ، وكنت محظوظا بالتقائي به وسلامي عليه في أكثر من أمسية شعرية أقامها،
فالأمير بدر بن عبدالمحسن رحمه الله من أهم رواد النص الشعري الحديث، وأحد المغامرين، والمغيرين في ملامح القصيدة الشعبية الحديثة ،فتعتبر اللغة الشعرية هي مادة البدر، والطريق الذي به يتواصل، ويوصل شعوره للآخرين، فهي تسافر في دمه، وتمر عبر شرايينه؛ لتحلق بالأفق، وترفرف في فضاء وجدانه المتأجج، وشوقه المتشظي، معتمداً اعلى قدرته الدقيقة في التقاط كلمات، تتضمن طاقة شعورية مشحونة؛ لتتجاوز بنا إلى معان أعمق، وأدق، وأوسع، ساعياً في توظيفها وتفجيرها، في مشهد شعري جديد، متناغم، بإيقاع داخلي، ودلالة شعرية، تؤهلها لرسم صورة متميزة في لغتها الانفعالية، مقتنصاً المفردة في نسق لغوي معبر... ولذا، لا يتم ذلك إلا عن طريق الانزياح، الذي حطم من خلاله المفردة المألوفة، أو القديمة في سياقها الشعري، وتفجير طاقتها الدلالية بإيحاء جديد، محققاً ذلك بتلك الثقافة الواسعة، والمخزون اللفظي الكبير، الذي يتمتع به يقول البدر، ذات همس وجداني شفيف:
«عشقٍ... جمع مـا بيـن قـاعٍ، وغيمـه..
فيض على صدر الثرى دمـع الأمـزان
همس النديم... اللي يعاتـب نـديمـه..
صوت المطر... كنـه تعاتيـب خـلان..»
فهذه المفردات المبعثرة، جمعها البدر، ونسجها في رؤية تركيبية تخييلية إيحائية... فنرى هنا أنه جمع المفردات التي تناسب السياق العام للمعنى، وجعلها بؤرة مركزية، يتكئ عليها في بناء النص، فلنتأمل:(قاع، غيمة، فيض، الثرى، صوت المطر) فهذه المفردات، ذات معجم طبيعي واحد... وظفها البدر في دلالات غنية، تزيد من تماسك النص، وتشكل صورا شعرية، تعتبر اللغة أرضية اللوحة التي رسمت بها. متصلة غير منفصلة عن تجربته الذاتية، والواقعية والنفسية والمتخيلة.إذ إن اللغة مرتبطة في حياة البدر عموماً، وكما أشار جومسكي عن اللغة بأنها: «تدخل في كل جانب من جوانب حياة الانسان وفكره، كما أنها مسؤولة إلى درجة كبيرة، عن حقيقة: أنه في العالم البايلوجي فقط، يمتلك البشر تأريخا وتطورا ثقافيا، وتنوعا ذا تعقيد معين وثراء».ويقول من نص:«لا تعلمني..:
ليه أحس، إني وأنا اشوفك حزين...؟وقلبـي الليلـه بهمـي ممتلـي..
كأنها الفرقى... طلبتـك حاجتيـن:لا تعلمنـي... ولا تكـذب عـلـي»
أذ نجد البدر هنا يعي أن لغة الشعر، هي من أهم العناصر، والعامل الأساس في فتح مغاليق النص الشعري، وسبر أغواره، وإدراك مكنوناته، فاستثمر المفردة الشعرية، وطاقتها التعبيرية بثيمة جديدة، وأثرانا برؤية عميقة مدهشة، باعتبار أن المفردة، حـجر الزاوية في بناء الجملة الشعرية في النص.فهذا هو البدر... يبهرنا في قدرته الفائقة على تشكيل اللغة، وإعادة تلوينها، لنحظى بصور شعرية رائعة، شكلها بلغة تعبيرية في بنائها، وانزياحية في تركيبها، متمرداً على القوالب الشعرية الكلاسيكية، التي لا تحرك في مشاعر وأحاسيس المتلقي ساكناً .نسمعه يقول: «لولا خوفي من أن تَجْفلي من غرامي...كتبت لك بدمي على عظامي...!»
فنجد أن ذروة النص وتأججه، في هذه المفارقة التصويرية، التي رسمها لنا: «كتبت لك بدمي على عظامي».فكان لانتقائه المفردات: «كتبت، دمي، عظامي» وصياغتها بأسلوب فني تصويري مكثف، جعل الصورة هنا متخيلة، بدلالات منفتحة على ذاته الخاصة... بكل ما تحمله من رؤيا، وإيقاع شعري متناغم. فقد وظف تلك الكلمات الشعرية في سياقات جديدة، بلغة عصرية، تحمل خصائص سينمائية، بصفات تركيبية، تخييلية، إيحائية، فيقول في نص «الترامى»:أنا ما ادري... مريت بين أصابعك رمل...اوعلى خصلات شعرك... ماء...كانت غبار وظلما...وكنت أطيح...وهذا... آخر ما اتذكر...فنلاحظ:لفظة: (رمل / ماء) وكيف خرق المألوف السائد، وأعاد تشكيلهما برؤية تزرع الدهشة، بدلالات وإيحاءات مكتنزة، بطاقة شعرية عالية، أتت في تناغم وانسجام تام مع السياق، الذي أراد البدر التعبير عنه، بتكثيف لغوي متجانس مع أفق الرؤيا؛ للوصول لبؤرة الفكرة المركزية وتشظياتها... وكذلك المفاجأة التي صدمتنا، وأدهشتنا، في قوله: «غبار / ظلماء».ومن تلك الخصائص والسمات، التي تحملها المفردة الشعرية عند البدر: عمقها، وجمالها الفني في الجرس والإيقاع، ودلالته على المعنى الرمزي والانفعالي، والترادف والتضاد والإيحاء والخيال، والتي من خلال هذه العوامل، وصل لنا البدر لغته الشعرية، بأسلوبه وثقافته وفلسفته، التي تؤهله لاختيار مفرداته المناسبة، لرسم الصورة الشعرية، عن طريق الاستعارة والانزياح والتشبيه.قال الناقد بوفون:«الأسلوب: هو الرجل نفسه»، والذي نتعرف على طريقة أسلوبه، من لغته ومفرداتها، وطريقة بنائه، وتركيبه بصورة منظمة ودقيقة.شاب العتب... وانقطع مـا بيننا الـواردولولا الندم، ما غرس فـابهامه سنونه!والحزن سيف... على ارقاب الفرح جاردوكل بسمةٍ في ديون الصبر مرهونـةفتأمل ـ قارئي العزيز ـ هذه الصورة الشعرية، التي شخَّص بها المجرد، بلغة فنية جمالية عالية: «شاب العتب». وكذلك، هذه الصورة المجردة الأخرى: (ارقاب الفرح) ومدى الأفق الواسع المتفتح، على أساليب شكلية وسيميائية، متجاوزاً بنا حدود الرتابة، بلغته ورؤيته، والتداعيات الممتعة التي أحدثتها في توظيف المفردة الشعبية الدارجة، داخل النسق بروح شعرية معاصرة. وكيف سمح للدلالة بالتدفق، من كف لغته الشعرية الغنية.أرجع وأقول: إن اللغة الشعرية عند البدر... قصيدة عظيمة، تسمو عبر لغة متفردة متجددة ، بجميع سياقاتها ومستوياتها ودلالاتها وترايبها، وتتميز بموسيقى وحركة داخلية، وبمعجم شعري زاخر، استطاع أن يُشكل منه مادته اللغوية: مفردات، وتراكيب، وصور، بكل إبداع واقتدار، فأتت لغته الشعرية: سهلة ممتنعة واضحة، بعيدة عن التعقيد والغموض في ألفاظها، وسطية بين العامية والعربية. وهذا سر آخر من أسرار انتشار نصوص البدر في الوطن العربي، وانبهار النخبة بهذه اللغة العالية، التي يكتب بها نصوصه، إذ إنها لغة المفارقة. تلك اللغة الحافلة بسماتها البنائية، وبتكثيفها واستعاراتها المتمردة، وبكل ما تحمله من مستويات اللغة: الصوتية، والتصويرية، والايحائية، والوجدانية، جاعلاً من الجملة التقريرية البسيطة التركيب، صوراً مضيئة، بتداعيات دلالية ممتعة، تحقق وظيفتها ومغزاها الدلالي بكل دقة ورقة ، لذى جاءت نصوصه مشوبة بالشوق، ومضمخة بالحنين والشكوى، ومضيئة بفوانيس الفكرة المشعة، التي تنور شوارع قلوب العشق، وتلطف حلم الزمان الآتي بنسمة تثير الحواس والأنفاس ،وهذا كله يعتبر من خصائص مفرداته الشعرية، وعمقها، وجمالها الفني في الجرس والإيقاع، ودلالته على المعنى الرمزي والانفعالي، والترادف والتضاد والإيحاء والخيال، والتي من خلال هذه العوامل، أوصل لنا البدر لغته الشعرية، بأسلوبه وثقافته وفلسفته، التي تؤهله لاختيار مفرداته المناسبة، لرسم الصورة الشعرية، عن طريق الاستعارة والانزياح والتشبيه».
كما نجد أن البدر استثمر تقنية البناء القصصي في نصوصه، لينمو الحدث، متدرجاً بالفكرة، ومستخدماً أساليب القصة، من حيث تقنية السرد والحبكة، لتؤسس مع الصورة الشعرية التي عن طريقها، يستطيع التقاط صور جزئية غير مترابطة، ليربطها بأسلوبه الفني، عن طريق تقنية المونتاج، لنظفر بصورة كلية.
وكأننا أمام فيلم سينمائي، مستفيداً من تلك الثقافة، التي منحته القدرة على التجديد والتجريب والابتكار، متجاوزاً المنجز الشعري القديم، وكل ما يحمله من تقريرية ومباشرة، من خلال الرؤية الداخلية، والخارجية الذاتية، وتعتبر قصيدة الومضة، أو التوقيعة من الأساليب الشعرية الجديدة في العصر الحديث، التي تأتي مكتملة ببنيتها العضوية، وبمعناها الذي لا يقبل إضافة، لكثافتها وتركيزها الشديد لغةً ودلالةً وشعوراً ،وتعتبر الصور الشعرية في نصوص الأمير بدر بن عبدالمحسن رحمه الله متفردة الفكرة بدلالاتها الخمس؛ اللغوية والذهنية والنفسية والرمزية والبلاغية، مضيفا مخزونا تصويريا ثريا للمتذوق والمتلقي الباحث عن أجواء توفر متعه الدهشة الشعرية ومشاركة الإحساس بين الشعور واللاشعور، بين سحر الصورة ونهرها المتدفق عبر تيارات الإبداع ولحظات الإمتاع، فالأمير بدر بن عبدالمحسن شاعر وفنان، ينساب تدفقه الفني من داخل ذاته للخارج يستكشف الموجودات بألوانها وأبعادها وأطيافها الساحرة المؤثرة بداخله، فيصوغها ويمزجها بأسلوبه عبر مداد قلمه وألوان ريشته, فتنبثق هذه الصور من مفاهيم لها جذور من اللغة والثقافة وكامنة منها والتي من خلالها نتلمس جمالية الشكل وومضات الرؤية والرؤيا المتميزة بالدقة والعمق والحيوية والشمولية، ومهما حاولنا أن نكتب عن تجربة بدر بن عبدالمحسن فسنكون قاصرين دون هذه التجربة الثرية ومقصرين في تتبع أثر معطياته الفنية.
**__**__**__**__**__**
- مؤلف كتاب «مسارب ضوء البدر»
** **
- إبراهيم الشتوي