عندما نتحدث عن المشهد الإبداعي الأدبي العربي، فإننا نتحدث عن عالم يمتزج فيه الماضي بالحاضر، التقليد بالتجديد والمعاصر بالحديث، والتاريخ بالحاضر، وفي الوقت الحالي نلاحظ امتزاجا بين الورقي والرقمي بعدما غزت التقنية العالم وكذا الانترنت التي دخلت مجال الإبداع.
هذا الامتزاج بين الورقي والرقمي في المشهد الإبداعي الأدبي العربي مثّل تطورًا مهمًا عكس تفاعل الثقافة العربية مع التحولات العصرية، في هذا السياق وجب علينا النظر إلى هذا الامتزاج بمنظور يجمع بين الحفاظ على القيم والتقاليد الأدبية العريقة، والاستجابة لتطلعات العصر الحديث واحتياجات القرّاء والكتّاب.
حاليا، أصبحت التقنية والإنترنت جزءًا لا يتجزأ من حياة الناس، وبالتالي لا يمكن تجاهل تأثيرها على المشهد الإبداعي الأدبي العربي، حيث أصبحت الكتب الإلكترونية والمدونات ووسائل التواصل الاجتماعي منصات هامة لنشر الأفكار والتعبير الأدبي، مما أتاح للكتّاب العرب الوصول إلى جمهور أوسع وتبادل الأفكار مع الآخرين بسهولة.
وعلى هذا الأساس يمكننا أن نرى كيف أن المشهد الإبداعي الأدبي العربي يعبر عن تنوع وتعدد الثقافة العربية، ويعكس التفاعل المستمر بين الماضي والحاضر، وبين التقليد والتجديد، هذا التحول الذي طرأ على المشهد الأدبي العربي والذي أحدث نقلة نوعية من الورقية إلى الرقمية يمثل تطوراً هامًا في عالم الثقافة والإبداع.
ومع ذلك، وما لا يمكننا التغاضي عنه هو علاقة الإنسان بالورقة فيظل الأدب الورقي جزءًا أساسيًا من الثقافة والتراث العربي، وله جاذبية خاصة لدى الكثيرين؛ فالكتب الورقية تحمل قيمة تاريخية وجمالية تعكس تفرد الأدب العربي وتراثه الغني، وبالتالي، يجب أن نحافظ على هذا التوازن بين الورقي والرقمي، وأن نستفيد من مزايا كل منها دون أن نفقد الاتصال بالجذور الثقافية والأدبية التقليدية.
في الماضي: مركزية الورقية
في السابق، كانت الكتب والمخطوطات تشكل مصدر المعرفة الرئيسي، وكانت الثقافة العربية مرتبطة بشكل كبير بما ورد في الكتب؛ كانت الكتب تعبر عن الفكر و الثقافة والهوية الوطنية، وكانت تعتبر وسيلة لنقل المعرفة والفلسفة والشعر والقصص من جيل إلى جيل. كانت مكتبات بغداد والقاهرة وقفصة وغيرها من المراكز العربية تعتبر مراكز للمعرفة والبحث العلمي، ونجد المبدعون من روائيين وشعراء يقدمون انتاجهم الإبداعي في شكل مؤلفات ورقية ، يعانون صعوبة النشر وإيصال حرفهم؛ حيث يأخذ منهم جهدا ماديا ومعنويا بعد الجهد الفكري، وبالتالي، ورغم هذه الصعوبات تعتبر الكتب الورقية جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي، وهي تعبر عن تاريخ الشعوب وثقافاتها ومعاركها وتجاربها، مما يجعلها قيمة ثقافية لا تقدر بثمن؛ فالكتب الورقية تتميز بمتانتها وثباتها عبر الزمن، ويمكن الاحتفاظ بها لفترات طويلة دون أن تتأثر بتقلبات التكنولوجيا أو الأجهزة التقنية.
حتى أن الكتب الورقية تخلق كيمياء عالية بين القارئ والكتاب، وهذا ما يدافع عنه مؤيدي الكتاب الورقي ورافضي الرقمية وحجتهم في ذلك هي متعة القراء بتجربة مميزة عند قراءة الكتب الورقية، وهذا ما لا يحدث في الكتاب الرقمي، حيث يمكنهم الاستمتاع بلمس الصفحات ورؤية النصوص بشكل مباشر، مما يضيف بعدًا إضافيًا من المتعة والتفاعل مع النص، وهذا حقيقة لا يمكن انكاره فالعلاقة بين هذين الطرفين (الكتاب والمتلقي) علاقة تفوق البصر الذي هو موجود في القراءة الرقمية، حتى عملية الكتابة على الورق تختلف تماما عن الكتابة على الحاسوب أو غيره من الوسائط الإلكترونية.
في الحاضر: راهنية الرقمية
مع تطور التكنولوجيا وانتشار الإنترنت، بدأ المشهد الأدبي العربي يتحول تدريجيًا نحو الرقمية حيث أصبح بإمكان الكتّاب نشر أعمالهم بسهولة أكبر، والتواصل مع الجمهور بشكل مباشر عبر المدونات والمواقع الإلكترونية؛ التي تتيح للكتّاب التفاعل المباشر مع قرائهم، حيث يمكنهم الرد على التعليقات والمشاركة في المناقشات، مما يعزز التواصل بينهم وبين القرّاء العديدين، فمن خلال النشر الرقمي، يمكن للكتاب العرب الآن الوصول إلى جمهور عالمي بسهولة، دون الحاجة إلى التعامل مع عوائق النشر التقليدي مثل التوزيع والتواصل مع دور النشر الأجنبية التي لطالما كانت تعيقهم معيقات كثيرة لنشر أعمالهم الإبداعية،كما أن توفر المنصات الرقمية العديد تعتبر من الخدمات التي تسمح للكتاب بنشر أعمالهم بتكاليف منخفضة أو حتى مجانًا، مما يسهل على الكتّاب الجدد دخول عالم النشر دون أن يكون لديهم رأس مال كبير.
فالإبداع في الأدب الرقمي هو إبداع بلا حدود حيث يمكن للكتّاب تجربة أساليب الكتابة المختلفة والتعبير عن أفكارهم بشكل حر ومبتكر دون القيود التي قد تفرضها دور النشر التقليدي. فنجد النشر الرقمي يتيح للكتاب الاحتفاظ بحقوق أعمالهم بشكل أفضل، حيث يمكنهم التحكم في عملية النشر وتوزيع الأعمال بطريقة تناسب رؤيتهم الإبداعية والتجارية.
ومع ذلك، فإن هذا التحول إلى النشر الرقمي يتعرض أيضًا لبعض التحديات، مثل زيادة المنافسة وصعوبة البحث عن الجمهور في بحر من المحتوى الإلكتروني وكذا غياب الرقابة على الإبداعات وتحديد الخصوصوية وحقوق التأليف لكن بشكل عام، يُعَتَبر النشر الرقمي خطوة إيجابية في تطوير المشهد الأدبي العربي، حيث يوفر فرصًا جديدة للكتّاب للتعبير عن أنفسهم والتواصل مع العالم بأسره بطريقة سهلة وفعّالة.
التحديات المستقبلية وآفاق المشهد الأدبي العربي
رغم التحول الواضح نحو الرقمي، تظل هناك تحديات تواجه المشهد الأدبي العربي في العصر الرقمي. إحدى هذه التحديات هي التحدي الثقافي واللغوي، حيث يواجه الكتّاب صعوبات في الحفاظ على الهوية اللغوية والثقافية العربية في وسط مختلف وسائل النشر والتواصل الرقمية العالمية. كما يظهر التحدي الثاني في شكل المحتوى، حيث يجب على الكتّاب العرب التفكير بشكل إبداعي في كيفية تقديم محتوى يجذب القرّاء ويحافظ على جودته في عالم يسوده التنافس الشديد.
ومع ذلك، تتيح التكنولوجيا الحديثة أيضًا فرصًا جديدة للابتكار والتفاعل الثقافي في المشهد الأدبي العربي، على سبيل المثال، يمكن للكتّاب استخدام الوسائط المتعددة مثل الفيديوهات والصوتيات لنقل رسائلهم الأدبية بطرق جديدة وجذابة، كما يمكن استخدام التقنيات الحديثة مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز لإثراء تجارب القراءة وتوسيع حدود الخيال الأدبي.
توازن بين التقليد والتطور
بناءً على ما ذكرناه، يبدو أن مستقبل المشهد الأدبي العربي يقع في تحقيق توازن بين التقاليد الأدبية العريقة ومتطلبات العصر الحديث، يجب على الكتّاب والقرّاء العرب التعايش مع التحولات التكنولوجية واستغلالها بشكل إيجابي لتحقيق التواصل والإبداع الأدبي، فعلى الكتّاب أن يكونوا مستعدين لاستكشاف تجارب جديدة وتبني أساليب كتابية مبتكرة تناسب متطلبات العصر الحديث، دون التخلي عن قيم الأدب العربي التقليدي والتاريخي، فالتحولات التكنولوجية لا تعني بالضرورة التخلي عن التقاليد الأدبية، بل يمكن أن تكون فرصة لتجسيد تلك التقاليد بأساليب حديثة ومبتكرة.
بالنهاية، يبقى المشهد الأدبي العربي مساحة متجددة للفكر والإبداع، حيث يتلاقى التقليد مع التحديث، والماضي مع الحاضر، لإنتاج أعمال أدبية تعبر عن الهوية والثقافة العربية بأشكال متنوعة ومتجددة.
** **
د. الريم حجوج - الأستاذة بجامعة الجزائر