تاريخ الأدب شاهد على كثرة النصوص التي تستدعي رموز وشخصيات الماضي، وعلى الرغم من الرؤية السلبية لهذه الظاهرة واستمرارها في الأدب الحديث، والتي تدعو إلى الإبداع بعيداً عن هيمنة التراث واستدعائه؛ إلا أن ظاهرة (النوستالجيا) في تفسيرها أوسع من مجرد العودة للماضي والحنين له؛ لأن هذا الحنين ما هو في حقيقته إلا انعكاس للحاضر، ووصف له وليس للماضي، فالنوستالجيا تقنية يلجأ إليها الأديب لإثارة الشعور تجاه الحاضر وتغييره من خلال الماضي، وقد فصّلت في هذه المسألة الكاتبة (سفيتلانا بويم) في كتابها «مستقبل النوستالجيا».
إذن فليست النوستالجيا مجرد حنين لماض قديم، بل هي تمثيل لمشاعر القلق والاغتراب لدى الأديب المعاصر، والأدب بشكل عام شكل فني يُعبّر عن النوستالجيا كما يقول النقاد.
(أرفف المكتبة) لعبدالله الوشمي من النصوص الملفتة في نوستالجيتها باستدعاء أبرز العلماء بطريقة خارجة عن المألوف، حيث تمكن المعني من التخلص من مشاعر الألم والتوتر التي أصابته بعد أن انتهى عمله في المكتبة بإسقاطها على هؤلاء الرموز الذين جعلنا نحياها معهم في ليالٍ لم نعهدها عنهم من قبل!
في نص أرفف المكتبة لم يُعطِ الشاعر في عتبته الأولى إشارة؛ بل جاء جملة اسمية تمامها متروك للعتبة الثانية بعدها، وهي الجملة الاستفهامية التي سبقت الأبيات:
(عندما أخرج ويسود الظلام، ماذا يحدث في المكتبة؟!)، ليكون النص كله إجابة هيَّأ فيه الشاعر المتلقي لاستقبال مشاعر النوستالجيا التي أتخمته ففاضت أبياتاً يتحرر بها.
لم يكتف الشاعر بذلك؛ بل إنه وضع عتبة ثالثة: العنوان الداخلي: (غرفة مظلمة) الذي تعمَّد تكراره وكأنه فاصل بين مقاطع القصيدة ذات الخمسة وعشرين مقطعاً، وتكرار (غرفة مظلمة) قبل بداية كل مقطع يبدو أنه تنبيه على أن الأعلام الذين استدعاهم حنينه، أخرجهم في الغرفة/ المكتبة سواد الظلام وسكينته؛ لأنهم رموز حقيقيون وليسوا كالباحثين عن أضواء الشهرة وضجيجها في الحاضر.
وأولى مثيرات الحنين التساؤل الحزين الذي خاطبته به (ليلى) التي اختار لها اسماً/رمزاً في الأدب العربي: (إلى أين؟)، هذا السؤال الذي هيّج الحسرة على عجزه عن البقاء بين أرفف المكتبات كسنين طوال ماضيات، فباح شجناً زاخراً بالحنين الحميم.
يستدعي الشاعر في كل مقطع من النص عدة شخصيات من رموز الثقافة والفكر في جميع مجالاتها في قفزات زمنية/ مكانية غير متوالية، وغير محدودة ،كـ (ابن خلدون، الفرزدق، ابن عثيمين، طه حسين، أدونيس، ابن بطوطة، ابن يتيمية، ابن رشد، سعاد الصباح... إلخ)، ليصور الشاعر يوميات هؤلاء الرموز حين يسود الظلام، وهنا المفارقة حين يجتمع شاعر جاهلي مع عالم أوروبي في هذه الغرفة/ المكتبة المظلمة، والصراع مع الزمان والمكان من أهم تقنيات النوستالجيا، فكأن الشاعر يستغل القصيدة لتكون وعاء لاحتواء خيالاته وأمنياته على لسان هذه الشخصيات في نَفَس سردي مثقل بالحنين:
وتبدأ أعينُهم بالدُّوارْ
ويعمُّ الهدوءُ الزحامْ
ابنُ فرناس
يسمع صوتَ ابن سينا
يناقش (إدْسُونْ)
بالدماء التي ترتخي عندما تتجلى هنا الكهرباءْ
بالحروف التي تتراقص أو ستطير إذا ما تراخى الضياء
ويودُّ بأن يستفيضَ ولكنها
الغرفة المظلمة
فيقومون متبسطين في جلسة أصدقاء وأحباب، لم يزدهم فيها اختلافهم العلمي والفكري سوى تآلفاً، ونغمات فناجينهم خير شاهد:
وتثيرُ بقايا الفناجينِ
رائحة الورقاتِ
يهمُّ النواسيُّ أن يتناول فنجانَه
ثمَّ يدعو رفيق الرفوف النَّسائيَّ
يستمعان النشيد وقرعَ الفناجين في
الغرفةِ المظلمة.
ويستمر الشاعر في تصوير أمانيه التي لا تُقِر الواقع ولا تعترف به؛ وذلك بالحديث عن أعلام الثقافة والفكر باستدعاء دلالاتهم؛ لأن الشعر تعبير عن الشعور، ويد تمتد لمصافحة المستحيل عبر أبيات القصيدة، والنوستالجيا كافية لاستدعاء الخيال؛ فها هما الفرزدق وجرير الثائران على بعضهما تبدل الحال بهما في المكتبة:
وهما هاهنا
هادئان على الرف
ملتصقان يعايش صوتهما اللحظة المعتمة
فأما جرير فيعشق صبر الفرزدق
يهوى الفرزدق صوت جريرٍ يسليه:(إن العيون التي)
ثم يكمل في الغرفة المظلمة.
وهكذا يرفض الشاعر أن تبقى أحلامه مسجونة فيستمر في تجسيدها من مقطع لآخر، وهنا تسيطر عليه فكرة التآلف، وتبادل المعرفة بين علماء الشرق والغرب في قوله:
ينكزُ المتنبي جبينَ العثيمين
ثم يكظمُ بسمته عندما
يبصر الطبري يحاور (إليوت) في جهة مبهمة
ولقد يجمعُ الله الشتيتين في
غرفةٍ مظلمة.
حتى الرَّحالة ابن بطوطة في هذه الغرفة المظلمة تبدلت أحواله؛ فتواشج لديه سحر الترحال حين التقى بجماعة الأدباء بسحرهم الأكبر ليستقر في مكانه متلذذاً بغواياتهم في صراع زمكاني نفسي لا تسلم منه الشخصية النوستالجية عادة:
تبرقان
عيونُ ابنِ بطوطةٍ تهجمان على زحمة الشعرِ والسحرِ
والفخرِ وسْط الرفوف الأنيقةِ
بالسرد والنثر والقصة الأجنبيةِ
يهوى الرحيلَ
يحبُّ التنقُّلَ
يدنو من البابِ
من شرفةٍ في الجدارِ
يشاهد نجماً بعيداً
ويستشعر الغربة المرحليَّة لكنها
الغرفة المظلمةْ.
وبعد جمع الليالي الساكنة في المكتبة، تصيب مشاعر الحنين كل شيء فيها فتختلط النوستالجيا بين الرفوف، والكتب مع مؤلفيها لتنزل بغزارة على المعني فيتوحد مع كتابه فلا تكاد تُفرّق بين ذاته، وذات الكتاب، يقول عن كتابه في لحظة تجلّي استعان بها في تقنية المونولوج الداخلي على لسان الكتاب:
من أنا؟
أيها الصامتونَ
على أرفف المكتباتِ
لكم ضجة دون صوت
لكم لذة السنوات الطويلةِ
لي لحظة في العبور
ولي رجفة الشوقِ نحو الكتابْ
من أنا؟!
دفترٌ وجوابْ
قلمٌ وارتيابْ
لحظةٌ من نمو السنابلِ
ليلٌ من الأمنياتِ
تفاصيلُ من تمتمات التوقعِ
أين يكون كتابي الأخيرُ
وأين الحروف ستذهبُ في
الغرفة المظلمة
وفي ختام النص ينجو الشاعر من التقليدية في آخر المقطع حين أقر بأن هذا الصديق/الكتاب مهما ألفته وعاشرته ستقسو عليه يوماً، وتهجره مركوناً على إحدى الرفوف:
الجليسُ الكتابُ
الصديقُ الكتابُ
الأنيسُ الكتابُ
الذي كان يملؤني بالنشيدِ
ويطعمني بالقصيدِ
وأعرفه بالحنان الرقيق ونبض الحروفِ
ولكنني دون أن أتذكّر غادرتُه في زحام الرفوفِ الأنيقةِ
في غرفةٍ مظلمةْ.
وهكذا فإن هذا النص وأمثاله دلالة على أن الشاعر في حالة النوستالجيا غارق في الحاضر وليس الماضي، والدافع الحقيقي للحنين للماضي هو الشعور بالقلق والتوتر والاغتراب من الزمن الراهن، وهذا الشعور بالاغتراب باستدعاء الماضي لدى الأديب من راوفد الإبداع في نصوصهم.
** **
د. نوير فهد العنقري - عضو هيئة تدريس في جامعة حائل