ولد الاهتمام باللغة العربية في بلادنا الغالية ضمن سياقات رئيسة ترتبط بالتاريخ والثقافة والجغرافيا والدين.
أما التاريخ فهو الارتباط بأزمنة عميقة الغور تجعل العربية هي الذاكرة التي يحملها إنسان هذه الأرض، وهو ما يرتبط بالثقافة حين نؤكد أن اللغة خيار ثقافي يضم الأهازيج والأفكار والمستقبل والخيارات التي يفرضها هذا البعد وغيرها، ومنها: البعد الجغرافي الذي جعل العروبة حكرًا في نشأتها على هذه الأرض، وهي الأمور الثلاثة (التاريخ والثقافة والجغرافيا) التي تكاملت في أن جاءت اللغة العربية لتكون حاضنة البعد الإسلامي بنزول القرآن الكريم بهذه اللغة فربط اللغة ببعدها الإسلامي وكرّس ذلك.
يمكن التنبه ولفت النظر إلى مرتكز رئيس يعد نتيجة تصاعدية لما مضى، وهو أن الملك عبدالعزيز رحمه الله جعل خيار العربية خيارا رئيساً لدولته، فهي التعريف الأول لدولته: (المملكة العربية السعودية)؛ ومن هنا نتذكر الأمر الذي لفت المؤرخ الريحاني بأن الملك عبدالعزيز يعلن جملته الشهيرة (حنا العرب)، وهي ما يمكن الإشارة والربط فيه مع كلمة أ.محمد حسين زيدان رحمه الله فيقول: إن قالوا عن العرب، فنحن على السنام، وإن قالوا الإسلام، فنحن على الذُّروة. نحن الوطن الأم. نحن الذين أعطينا لغة الضاد للناطقين بها الآن (مجلة الدارة 1975م)
إن الاهتمام باللغة العربية نهج سارت عليه بلادنا الغالية من عهد مؤسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان آل سعود - أيدهما الله- اللذين تجلّى حرصهما على دعم اللغة العربية في عدد كبير من المؤسسات والمشروعات والبرامج والأنظمة والمبادرات.
جاء تأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية -وهو امتداد للمبادرات الكبرى للمملكة العربية السعودية-؛ للمساهمة في نشر اللغة العربية وثقافتها، وليسهم إسهامًا مباشرًا في تحقيق أهداف برنامج تنمية القدرات البشرية، وليربط اللغة بثقافة العصر ومستجداته؛ تحت قيادة ومتابعة من وزير الثقافة رئيس مجلس أمناء المجمع، صاحب السمو الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود، الذي يقدم دعمًا غير محدود انعكست آثاره الإيجابية على المبادرات والمشروعات النوعية.
يعمل المجمع من خلال مساراته الأربعة: «السياسة اللغوية»، «الحوسبة اللغوية»، «التعليم والتعلُم»، «الثقافة اللغوية»، على تنفيذ المبادرات والمشروعات وفق أهداف إستراتيجية؛ تحقيقًا لرؤيته، وهو أن يكون للمجمع الريادة والمرجعية العالمية في خدمة اللغة العربية، وتحقيقًا لرسالته وهي: «العناية والاعتزاز باللغة العربية، وتمكين إسهامها الحضاري والعلمي والثقافي؛ لتكون المملكة العربية السعودية رائدة في مجالات اللغة العربية وتطبيقاتها».
فقطاع التخطيط والسياسة اللغوية يُعنى بأعمال التخطيط اللغوي والسياسة اللغوية، وإجراء الدراسات الاستشرافية، وبناء الخطط المستقبلية الرامية إلى تحسين البيئة اللغوية وتعزيز المكانة اللغوية.
أما قطاع الحوسبة اللغوية فيُعنى بإنشاء المصادر اللغوية وما يتصل بها من تطبيقات حاسوبية تهدف إلى المعالجة الآلية للغة العربية فهمًا وإنتاجًا، وهو مجال تخصصي دقيق يجمع بين الحاسوب واللغة العربية، ويهدف إلى دعم مجالات اللغة العربية بالتطبيقات الحاسوبية، ودعم الأنظمة الحاسوبية في جوانب اللغة العربية؛ لتكون اللغة العربية منافسة للغات الأخرى في هذا المجال.
وقطاع التعليم والتعلُّم يسعى لتوفير تعليم ذي جودة عالية للناطقين بغير العربية مستخدمًا في ذلك جميع الوسائل المتاحة لتقديم قيمة مضافة للبرامج التعليمية الأكاديمية القائمة؛ إذ يعمل على تقديم منتجات وتطبيقات ووسائل تعليمية جديدة ومبتكرة. إضافة إلى ذلك يسعى القطاع لمد الجسور وبناء العلاقات بين الجهات اللغوية في أنحاء العالم. كما تخدم مشروعاته الناطقين بالعربية، والراغبين في تعلمها من الناطقين بغيرها.
أما قطاع الثقافة اللغوية فيُقدم أفكارًا متنوعة لتثبيت الهوية اللغوية في الفضاء الاجتماعي، ولتعزيز مكانة اللغة العربية في نفوس أبنائها؛ انطلاقًا من الوعي بأن العربية جزء من الهوية والثقافة. ويعمل هذا القطاع على مستوى البرامج الطويلة المدى والبرامج والفعاليات القصيرة، ويهدف إلى تقديم عمل لغوي ثقافي جاذب ومبتكر.
إنَّ مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يسعى - من خلال مبادراته وبرامجه ومشروعاته اللغوية المتنوعة - إلى المحافظة على سلامة اللغة العربية وترسيخها هُوّيّة لغوية، ودعمها نطقًا وكتابةً، وتيسير تعليمها وتعلّمها داخل المملكة العربية السعودية وخارجها. ويسعد بشراكاته النوعية، وما يتكامل فيه مع المؤسسات والهيئات الوطنية والعربية العريقة في خدمة لغتنا وهويتنا العربية، ويؤمن بأن خدمة لغتنا خدمة للوعي والخلود والثقافة والهوية، وأن العمل في نشر اللغة العربية وتمكينها رسالة ومسؤولية، وليس وظيفة فرد أو مؤسسة.
لغتنا العربية التي جاءت لتمتد على مساحات واسعة من التاريخ والثقافة والجغرافيا والدين لغة قوية تمتاز بخصائص تتكامل لتبني حضورا كبيرًا يمكنه أن يواجه التحديات النوعية التي تواجهها وتواجه اللغات في عالمنا المعاصر، وسيكون الدعم الذي يجده المجمع من قيادتنا الرشيدة، ومن رؤية السعودية 2030، ومن برنامج تنمية القدرات كفيلًا أن يحقق للمجمع إستراتيجيته وأهدافه.
أخيراً، فإن برامج المجمع ومشروعاته تتكامل مع شركائه ومستهدفيه، ونجد في الأعمال التي تقوم بها وزارات وهيئات وجهات عديدة إيماناً عميقا بقيمة اللغة وأثرها، وهنا تمتد بين المجمع وهذه المؤسسات وشائج التعاون والشراكة والعمل النوعي، ومن هذه الجهات: (صحيفة الجزيرة) التي بادرت عبر رئيس تحريرها الإعلامي الكبير أ. خالد المالك بجهود متنوعة في خدمة لغتنا العربية عبر منبرها العربي الرصين، وعبر ملحقها الثقافي الذي يقوده د. محمد الفيصل، وهي مسارات مهمة تُعنى بمحتوى اللغة العربية وجمالياتها وأن تكون حاضرة في تفاصيل الأدب والثقافة والإبداع.
** **
أ.د. عبد الله بن صالح الوشمي - أمين عام مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية