لم يكن تأسيس مجمع الملك سلمان للغة العربية بمعزل عن الخارطة المستقبلية للنهضة الكبرى التي تشهدها المملكة العربية السعودية، وترنو إلى تحقيقها على المستوى الوطني والعربي والإقليمي بأبعادها المختلفة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً وديمغرافياً وعمرانيّاً، وذلك ضمن رؤية 2030 الاستراتيجية التي تتكئ على مبدأ التنمية المستدامة والتحديث الشامل للمؤسسات والمرافق والعلاقات بأشكالها كافة.
ومن الطبيعي أن تكون اللغة أحد أهم محاور هذه الرؤية لأنها تتّصل بمختلف الجوانب المشار إليها، وإنما هي مؤشر بالغ الأهمية على تقدم الناطقين بها؛ فمن خلالها يتبلور خطاب النهضة برمّته وتُحدّد مكانته؛ وكان ذلك في صلب اهتمامات المجمع ومشاريعه ومؤتمراته، وأشير - هنا بشكل خاص - إلى ما جاء في التعريف بدور المجمع: مجْمع عالمي تأسّس لخدمة اللغة العربية، ونشرها، والمحافظة عليها، وتعزيز دورها في مختلف المجالات إقليميًا وعالميًا، ليكون الجهة الرسميّة السعودية التي تتولى الشؤون اللغوية، وسياساتها وبرامجها، وتتولى العمل الدولي المرتبط بها، كما تتولى القيادةَ بالدراسات الاستشرافية، ووضع الاقتراحات والتوصيات على أعلى مستوى؛ لمعالجة المخاطر المحتملة، أو اقتناص الفرص الثقافية الممكنة.
ولعل ما يلفت الانتباه تعدّد النشاطات والحراك الثقافي والعلمي الذي ينهض به المجتمع في مختلف المجالات، فثمة مؤتمرات علمية عالميّة ذات طابع تربوي تعليمي تعمل على تكريس حضور اللغة العربية في مختلف أنحاء العالم خارج نطاق الدول التي تعدّ اللغة العربية فيها ضرورة دينيّة كما في البلدان الإسلامية والعربية التي تُعدّ العربية ملمحاً من ملامح هويتها وثقافتها، فمؤتمر (تحديات وآفاق تعليم اللغة العربية وآدابها) الذي عقد في مدينة سيول الكوريّة من أبرز الأمثلة على ذلك الذي أتت في سياقه جهود متنوّعة في تعزيز اللغة العربي في كوريا عبر دورات سابقة، وإصدار كتب علمية وتعريفّية وثقافيّة وتنظيم عدة محاضرات، ومنها - كما ورد في التقرير الخاص بهذا المؤتمر - تحقيق أهدافه ومكتسباته المتمثلة في: التعريف بالمجمع وأنشطته، والوصول إلى الجهات المستفيدة حول العالم، وفتح قنوات التواصل معها، والاستفادة من التجارب المختلفة حول العالم في تعليم اللغة العربية لغة ثانية، والعمل على توحيد المرجعية العلمية داخليًّا فيما يتعلَّق باللغة العربية وعلومها، والعمل على تحقيق ذلك خارجيًّا، كما يهدف المجمع من خلال إقامة المؤتمر الدولي إلى المساهمة في تطوير تعليم اللغة العربية حول العالم، والعمل على تعزيزها؛ لتواكب المتغيرات في المجالات كافة، فضلًا عن إيجاد البيئة الملائمة لتطوير اللغة العربية وترسيخها، وتشجيع العلماء والباحثين والمختصين في اللغة العربية، وهذا ما ورد عن دوره نصّاً.
شهد المؤتمر في يومه الأول عقد أربع دورات تدريبية، بعنوان «استخدام الأدوات الرقمية في تعليم اللغة العربية» و(مهارات التحرير العربية)؛ وذلك بهدف تأهيل معلمي اللغة العربية في جمهورية كوريا، وتزويدهم بالطرق والاستراتيجيّات الحديثة لتعزيز مهارات متعلمي اللغة العربية للناطقين بغيرها، وتنمية مهارات المعلمين لتوظيف التقنية في تعليم اللغة العربية، وتمكين المشاركين من المهارات الرئيسة للكتابة باللغة العربية، واستهدفت مخرجاتها عدة مهارات لغوية.
من الواضح أن مجامعنا اللغوية العربية، وفي مقدمتها مجمع الملك سلمان تسعى إلى مسايرة تكنولوجيا العصر والاستثمار اللغوي في مجالات الرقمنة في الدرجة الأولى، والمواءمة بين المعطيات اللغوية والإمكانات الفنيّة والعمل على استيعاب مهارات البرمجة الحاسوبية والعصبية من أجل مسايرة التطور في هذا العصر الرقمي عبر التحكّم في مقوّمات الرقمنة بثرائها المعجمي.
فمن المعروف أن اللغة العربية التي اعتُرف بها لغةً رسميّةً في الأمم المتحدة وأنها ضمن اللغات الخمسين الأكثر بروزاً في الترجمة منها وإليها بين لغات العالم؛ بما امتازت به من خصائص وميزات؛ إذ عُرفت بمرونتها الصرفيّة ونظمها الكتابيّة التي تتسق مع النطق بها بلسان مبين ولفظ متين، وإيقاعاتها وكفاءتها الصوتية وقابليتها للرقمنة؛ فهي تحتلُّ مركزاً مهماً على محركات البحث، وتمتلك خصوصية ثقافية في عالم متعدّد الثقافات؛ فهي عالمية بكل المقاييس بعدد الناطقين بها والمحتاجين لها في عالم السياسة والأمن والاقتصاد، ولهذا فإن تنظيم مجمع الملك سلمان للغة العربية وتكوينه ودوائره وأقسامه يؤكّد دوره الاستراتيجي في جميع القضايا المتعلقة باللغة العربية، من خلال التعاون مع الجهات المهتمة «بتعليم العربية للناطقين بغيرها من الخارج، وتعزيز رسالته في استثمار فرص خدمة اللغة العربية، والمحافظة على سلامة اللغة العربية وهويتها اللغوية، ودعمها نطقًا وكتابة، وتعزيز مكانتها عالميًّا، ورفع مستوى الوعي بها، وتيسير تعليمها وتعلمها داخل المملكة العربية السعودية وخارجها».
ويعمل المجمع على سدّ الفجوة الرقمية الهائلة واستغلال الجهد المبذول الذي تم تخزين بياناته بالمليارات التي تمتلكها شركات كبيرة، مثل جوجل وغيرها، تستثمر في برمجة النطق ومخارج الحروف والاستيعاب المعرفي في مجال خصائص اللغة وما يجمع لغتنا مع اللغات الأخرى، والعمل على تركيز البيانات والدمج بينها، ومهارات التعرّف على بعض الدوالّ اللغوية عبر البرامج التي نستخدمها ولا يدركها الحاسوب إلا من خلال ماهو محسوس عبر الماسح الضوئي، فتعريف الكلمة عند المختصين في هذا المجال يتم عبر الفراغات لا من خلال المعنى والسياقات، ولذلك يبرز السؤال عن الفراغ المحدّد المسار الذي لا يمكن أن نعرفه إلّا من خلال التعلّم واكتساب المهارة الخاصة به، فلا بد من استيعاب المعرفة الحاسوبية واللغوية على حد سواء، وهذا ما يسعى المجمع مع غيره من المعاجم الرديفة إلى استيعابه.
ويعمل المجمع في مجالات عدة، مثل تعريب المصطلحات واستيعاب المستجدات في مجال اللسانيات، خصوصاً فيما يتعلق بالتدوليّة بوصفها علماً ومنهجاً له مقوماته وإجراءاته يبحث في الخطاب اليومي والعادات الكلاميّة، ومقامات القول والتلقّي؛ فالعادات الكلاميّة تلقائية وجماعيّة غير فرديّة تميل إلى تحقيق الصوت محدودة بمكان وزمان متّسقاً مع التطورات الصوتية في استوائها واضطرابها الذي يظهر أثره في الخطاب اليومي والعادات الكلاميّة، من هنا جاء تنوّع البحث فيها، مثل الدراسات اللسانية في خطاب القرآن الكريم، والخطابات السائدة في الأقاليم المختلفة وما تنبئ به من خصوصيات ثقافيّة وبيئيّة وغيرها.
إن المسؤوليات المنوطة بهذا المجمع كثيرة والآمال المعقودة عليه كبيرة؛ فاللغة ذاكرة الأمة ومذخور ثقافتها وقيمها الإنسانية والأخلاقية، ووسيلة التواصل وقضاء الحاجات والاضطلاع بأدق المهمات، وفق التعريف المشهور لابن جني: « اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن حاجاتهم»، وما أكثر هذه الحاجات وما أسرع إيقاع التطور فيها في عالم متسارع التقدم فلكي التطور.
** **
- أ.د. محمد صالح الشنطي