حينما تواصل معي مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في بداية يوليو من عام 2023 وطلب مني تعبئة استمارة البيانات للمشاركة ببحث في ملتقى الصناعة المعجمية الذي تم عقده في نهاية شهر سبتمبر 2023م بالرياض، حينما تمّ هذا التواصل، وذاك الطلب، فإنه أنعش فيّ ذكرياتي السعيدة مع مركز الملك عبد الله الدولي لخدمة اللغة العربية (والذي انضم الآن إلى مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية)، وذكرياتي مع الإخوة الزملاء فيه، وعلى رأسهم أخي العزيز أ.د. عبد الله الوشمي، ولا سيما وأنّني كنتُ قد شاركت في بعض فعالياته خلال عامي2013م و 2017م، بالإضافة إلى تشرّفي بالمساهمة في بعض مشاريعه مثل تحرير كتاب بعنوان «اللغة العربية في باكستان» وكتابة مقال «أنا والعربية» في كتاب بعنوان «كيف نشرت العربية».
واسمحوا لي أن أبوح بصراحةٍ عن انطباعي عن المجمع في الوهلة الأولى قبل زيارتي له في سبتمبر 2023م، إذ لم يختلف هذا الانطباع عمّا شاهدته وجرّبته في المركز خلال عشر سنوات ماضية، حيث كانت تجربة التواصل والمشاركة والعمل معه مليئةً -دون شك- بالحبّ، والتعلّم المتبادل، ورؤى تؤدّي إلى التطوّر والتقدّم في خدمة اللغة العربية بطرق شتى. واسمحوا لي أيضاً أن أعترف اعترافًا بتقصيري بأنّي لم أسع- قبل سفري هذا- سعياً حقيقياً للتعرف على المجمع ومحاوره وبرامجه، وذلك لأنّي أؤمن إيماناً بأنّ المشاهدة خير برهانٍ في سبيل التعلّم الفعال.
وعلى أية حال، بدأت رحلتي إلى الرياض، وأنا أحمل هذا الانطباع وتلك التجربة. وحينما اتّجهت إلى صالات مطار الملك خالد بن عبد العزيز الدولي للإجراءات اللازمة، شرعتُ أحسّ بتغيير جذريٍ في بيئة المطار بجميع نواحيها، مهنيةً كانت أو بشريةً، اجتماعيةً كانت أو استضافيةً؛ فاندهشت اندهاشاً بمشاهدة ملامح بارزة لرؤية المملكة العربية السعودية 2023م. (يحتاج هذا الجانب من زيارتي إلى كتابة مقالٍ مستقل، وقد نشرت، بهذا الصدد، مقالاً بالأردية في صفحة الفيسبوك الخاصة بي). فأخذ يحدث، خلال مشاهدة هذه الملامح، تغييرٌ جذريٌ آخر فيّ، ولم يخيِّب هذا التغيير ظنيّ خلال الأيام الثلاثة التالية التي قضيتها في رحاب المجمع، وأصحابه، وفعالياته، وخلال التعرّف على نشاطاته المتعددة؛ فقد قضيت هذه الأيام في جوٍّ مفعمٍ بالحبّ، والترحيب، والاستقبال، والحفاوة، والحماس، والتفاعل، إضافةً إلى عناصر الحيوية والنشاط والشبابية (إن صح هذا التعبير) بصرف النظر عن العمر الزمني، وإن كنت قد لاحظت أنّ بيئة المجمع المهنية يغلبها الشباب والشابات النشطون.
وخلال هذه الزيارة، سنحت لي فرصة التعرّف على محاور المجمع الاستراتيجية مثل السياسات اللغوية، والحوسبة اللغوية، والتعليم والتعلم، والثقافة اللغوية، فعرفت أنّ لكل من هذه المحاور برامج ومسارات عديدة، ولا يتسع المكان هنا للحديث عن كلّها حتى عن معظمها، ولذلك سأكتفي بذكر بعضٍ منها، ولاسيما التي جذبت انتباهي أكثر:
• أنا شخصياً أميل إلى الاستثمار المادي والمعنوي في تربية الأطفال والشباب وتطويرهم؛ إذ هم مستقبل أيّ شعبٍ أو أمّةٍ، ولذلك يخلق في قلبي، كلُّ جهدٍ مصروفٍ لهم، طموحاتٍ تهمسُ في أذني أنّ مستقبلنا على يُرام؛ فبرنامج العربية للأطفال وتجهيزاته التقنية المدهشة، وإعداداته البشرية، والمعلّمات المدرَّبات المسؤولات عن هذا البرنامج، أحيت طفلي المشاغب في شخصتي، فرأيتُ بيئة هذا البرنامج كما يَرى الأطفال، وشعرتُ بتفاصيلها كما يشعرها الأطفال، واندمجت إليها كما يندمج إليها الأطفال، وسعيت أن أجسّد كلَّ ذلك في عقلي المحلِّل، فوجدته تجربةً ممتعة نادرة في التعلم التي دائماً تأتي بثمار فذة.
• ومن أبرز المشاريع التي أعجبت بها، خلال زيارتي هذه، إنجاز مشروع اختبار كفايات اللغة العربية (همزة) والذي تمّ بناؤه وفقاً للإطار الأوربي المشترك للغات؛ فالمجال هذا له اهتمام خاص في بحوثي العلمية.
• لم أنس ولن أنسى حفل تدشين «معجم الرياض» المبجّل؛ فقد انبثق هذا المعجم من مهبط الوحي ومسكن العرب الأقحاح، وهو معجم يُزيل أستار العربية عن متانتها، وجمالها، ويبين معانيها ومترادفاتها، ومضاداتها، إضافةً إلى اهتمامه بذكر حقولها الدلالية، وشرح كل ما يتعلق بها من مشتقاتها، وحروفها، وتركيبها، واستخدامها. وقد تبنى المعجم منهجا لا يطابق مناهج القرن الواحد والعشرين فحسب، بل ينافسها منافسةً تثير الإعجاب والدهشة لدى الدارسين. ولاحظت أنّ فلسفته تكمن في جهدٍ يُداوم التقدم والتطور بمشاركة الخبراء والمستخدمين الفعّالة والمستمرة. فجزى الله المجمع والقائمين على هذا المشروع أحسن الجزاء على إنجازه الفذ، وعلى العمل المستمر في تطويره.
وأخيراً وليس آخراً، تَعجز كلماتي عن تعبير مشاعر الشكر، وعواطف الودّ المتدفقة لكل مّا يقدم مجمع الملك سلمان العالمي للّغة العربية وخدّامها من خدمات وإنجازات رفيعة القدر، ولاسيما يتمّ ذلك كلّه بالروح العالية، والتفاني، والالتزام، والإخلاص. ولم لايكون ذلك كذلك! فقد يقود هذا الركب الفخم صديقنا الشقيق وأخونا الكريم سعادة أ.د. عبد الله الوشمي الأمين العام للمجمع والذي يتسلّح بجميع مكونات القيادة الناجحة؛ بدءاً من الرؤية، والإخلاص، والحركة، وشفافية الهدف، واحترام أعضاء الفريق، و..و...
** **
- د. إنعام الحق غازي