تتجلَّى عظمةُ العربيَّة في أَسْمَى معانيها مع لحظة نزول حروفها الشريفة من السماء إلى الأرض في أطهر البقاع، وعلى أفضل الرسل والأنبياء -صلى الله عليه وسلم-، واصطفاها اللهُ تعالى لغةً لأفضل الكتب السماوية: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يُوسُفَ: 2]، فرَبَط العربيَّةَ بالعقل والتعقل؛ لأنَّها اللُّغة التي قدَّمَت كلَّ الألفاظ المعبِّرة عن الحاجات الإنسانيَّة التي تسعى إلى تحقيق متطلَّبات الحياة وبتعقُّل؛ من أَجْل تحقيق التمكين والاستقرار، ومن هنا تجلَّت رؤيةُ المؤسِّس العظيم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله تعالى- الذي أبَى إلَّا أن تكون العربيَّة جزءًا لا يتجزأ من اسم (المملكة العربيَّة السعوديَّة)؛ تعظيمًا وإجلالًا للعربية التي انطلق نورُها الحضاريّ من بلاد الحرمين؛ وإيمانًا منه بمكانتها التاريخيَّة العظيمة ودورها في نَشْر العلم والمعرفة، وبناء الحضارة والثقافة الإنسانيَّة؛ بل هي الأطول عمرًا بين لغات العالَم في نشر العلوم والفنون ورسم الحضارة البشريَّة بقِيَمِها وإنسانيتها الفريدة.
وعلى نهج المؤسِّس الراحل -رحمه الله تعالى- أصبحت العربيَّة ضمن أولويات رؤية المملكة، فكانت سبَّاقةً إلى خدمتها، وإلى رسم سياساتها، وإصدار القرارات والمراسم التي تُترجِم جهودَ المملكة وإيمانها الراسخ بأن العربيَّة جزء لا يتجزَّأ من الهُوِيَّة الوطنيَّة والخليجيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة، بالإضافة إلى الثقافة الإنسانيَّة؛ كما ترجمت تلك الجهود في سلسلة ومجموعة مبادَرات وبرامج ومشاريع قادتها المملكة؛ فكان لها الأثر العظيم في نشر العربيَّة والنهوض بها على المستوى المحليّ والإقليميّ والعالميّ؛ فبالنظر إلى واقع تلك الجهود التي انطلقت من المادة الأولى من الدستور السعودي، بِجَعْل العربيَّة أساسًا لأنظمة الدولة وهويتها؛ فقد تضمنت رؤية المملكة (2030) ضرورة العناية باللُّغة العربيَّة بوصفها جزءًا من مُكوِّنات الهُوِيَّة السعوديَّة، فتلبيةً لنداء هذه الرؤية الحكيمة صدَر القرارُ السامي بتأسيس مَجْمَع الملك سلمان العالميّ للُّغة العربيَّة؛ ليكون المجمع الأول من نوعه بين المجامع العربيَّة يُصرَّح بعالميته؛ بل ويجعل للعالمية نصيبًا في اسمه؛ وهذا يعكس حرص القيادة الرشيدة في تحقيق رؤية المملكة (2030)؛ لتعزيز نهج المؤسس الراحل، واستمرارًا في دعم العربيَّة على المستوى العالَمي، فقد كانت المملكة ومازالت سبَّاقةً في تقديم السخاء اللُّغويّ للعربية بلا حدود، فمنذ تأسيسها كان لها دورٌ كبيرٌ في دعم العربيَّة، دعمٌ سيكتبه التاريخ، وتزهو به العربيَّة، فبالنظر إلى تلك الجهود سنجد العديد من المراكز والمعاهد والجامعات التي أنشأتها ورعتها المملكة على المستوى الدوليّ في قارات آسيا، وأوروبا، وأفريقيا، وكذلك الأمريكيتين، من أجل نشر العربيَّة وتعليمها وتقديم الدورات التي تُسهِم في تمكينها لديهم، بالإضافة إلى أن بعض جامعات المملكة فتحت أبوابها لاستقطاب وإلحاق العديد من الطلبة حولَ العالَم؛ لتعلُّم العلوم العربيَّة والدينيَّة في جامعاتها بالمملكة؛ فقد أصبحوا اليوم سفراء العربيَّة، بل أصبح بعضم سفراء لدولهم في توثيق أواصر العَلاقات والتعاون مع الدول العربيَّة؛ فأسهَمُوا في تنمية العَلاقات الاقتصاديَّة والثقافيَّة والدبلوماسيَّة والحضاريَّة مع دولهم؛ ممَّا يعكس جهود المملكة وثمار دعمها للعربية؛ تحقيقًا لرؤية المملكة، وتنفيذًا للأوامر السامية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -يحفظهالله ويرعاه- حيث يقول: «بلادُنا المملكةُ العربيَّةُ السعوديَّةُ دولةٌ عربيَّةٌ أصيلةٌ، جعلت اللُّغةَ العربيَّةَ أساسًا لأنظمتها جميعًا، وهي تؤسِّس تعليمَها على هذه اللُّغة الشريفة، وتدعم حضورَها في مختلف المجالات، وقد تأسست الكلياتُ والأقسامُ والمعاهدُ وكراسيُّ البحث في داخل المملكة وخارجها لدعم اللُّغة العربيَّة وتعليمها وتعلُّمها».
واستمرارًا لتلبية طموحات العربيَّة التي أشار إليها خادم الحرمين الشريفين فقد وجهت القيادة الرشيدة وصدَر القرار السامي إلى تأسيس مَجْمَع الملك سلمان العالميّ للُّغة العربيَّة بمجلس الوزراء؛ سعيًا إلى تحقيق رؤية المملكة (2030)، والأهداف الاستراتيجية لبرنامج تنمية القدرات البشريَّة الذي أعلن عن إطلاقه سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان آل سعود -يحفظه الله ويرعاه-.
ومنذ تلك اللحظة انطلق مَجْمَع الملك سلمان العالميّ محَلِّقًا في سماء العربيَّة، طامحًا إلى معانقة ثُرَيَّا رؤيته؛ ليضيء بها ما يُسهِم في تحقيق الاعتزاز والتمكين الحضاريّ والعلميّ والثقافيّ؛ وذلك من خلال عدَّة مَحاوِر وأفلاك لُغويَّة؛ كالسياسة اللغويَّة، والحوسبة، والتعليم، والتعلُّم، والثقافة اللغويَّة، منطلقًا من واقع العربيَّة وقياس حالتها بمؤشرات في عدة نطاقات وَفقًا للبُعد الثقافيّ والجغرافيّ؛ ليكون مرجعًا لأصحاب القرارات ومُعِينًا لهم في تطوير العربيَّة، كما بذَل المجمعُ جهودًا كبيرةً في رصد السياسات اللغويَّة في الدول العربيَّة إلى ما يقارب ألفَيْن ومائتَيْ سياسةٍ لُغويَّةٍ، وانعكاساتها وتأثيرها على واقع العربيَّة من أجل بذل الجهود لتعزيز وتطوير تلك السياسات التي تلبِّي احتياجات العصر؛ بالإضافة إلى بناء المعايير اللغويَّة في عدة مجالات تخصصيَّة، كما نُثمِّن جهودَ المَجْمَع في دعم اللُّغة العربيَّة للنهوض بمكانتها العالميَّة وتعزيز حضورها في المنظمات الدوليَّة؛ كاليونسكو، والأمم المتحدة، لوضع رؤية استراتيجية دوليَّة تليق بمكانتها الحضاريَّة التاريخيَّة، مُقدِّرينَ جهودَ المَجْمَع في تقديم العديد من الاستشارات اللغويَّة لأكثر من أربعين دولةً ومئات الآلاف من المُستفِيدينَ عبرَ منصته المتميزة «منصَّة المستشار اللُّغويّ».
بالإضافة إلى تلك الجهود؛ فإنَّنا نُشِيد أيضًا بجهود مَجْمَع الملك سلمان في المجال العلميّ والأكاديميّ والتقنيات الحديثة والحوسبة؛ وذلك من خلال مؤتمره السنوي الذي يعد ملتقى لمناقشة العديد من الرؤى والقضايا التي يسعى المؤتمر لتقديم الحلول والمقترَحات الإبداعيَّة لها في مجالات العربيَّة وتعليمها.
أمَّا مجال الحوسَبة فالرؤية المتميزة التي يسعى إليها المَجْمَع لتحقيق المرجِعيَّة العالميَّة في المُدوَّنات اللغويَّة والمعاجم العربيَّة جعلته يبتكر العديد من الأفكار والمبادَرات والبرامج الرائدة في هذا المجال، فقد أبهَرَنا المَجْمَعُ في إحدى زيارتنا له بمعجم الرياض، الذي يخدم عموم أبناء العربيَّة؛ بهدف تيسير توظيف الذكاء الاصطناعيّ لبناء أدوات ذكية ونماذج حاسوبيَّة مستنِدة إلى المعجم، كما أَطْلَعَنا المَجْمَعُ -أثناءَ الزيارة- على مركز العربيَّة للذكاء الاصطناعيّ، وبرمجان العربيَّة؛ وهو تحدٍّ تقنيٌّ عالميٌّ لابتكار الحلول التقنيَّة والرَّقْمِيَّة، ومِنصَّة (فلك) التقنيَّة التي تَجْمَع المُدوَّنات العربيَّة، بالإضافة إلى العديد من المبادَرات كمِنصَّة سوار للمعاجم الرَّقْميَّة بهدف نشرها، ومركز (أبجد) لتعليم اللُّغة العربيَّة للناطِقِينَ بغيرها، وبرنامج (الانغماس اللُّغويّ)، واختبار (همزة) للكفايات العربيَّة، وقناة (العربيَّة للعالَم) التعليميَّة للناطِقِينَ بغيرها، وتدريب وتأهيل مُعلِّمي اللُّغة العربيَّة للناطِقِينَ بغيرها.
كما كان لجائزة مَجْمَع الملك سلمان العالميّ للُّغة العربيَّة أثرٌ كبيرٌ في تحفيز الجهود في خدمة اللُّغة العربيَّة محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، كما اطَّلَعْنا أثناءَ زيارتنا للمجمع في مقره بالرياض على معرض اللُّغة العربيَّة للطفل، والذي يُعَدّ -في الحقيقة- نموذجًا رائدًا بأسلوبه وتصميمه التِّقنيّ والحضاريّ الذي يحاكي متغيِّرات تعليم الأطفال التقنيَّة والبيئيَّة، وكذلك مسابقة الأطفال لتحدِّي الإلقاء؛ ممَّا يدلُّ على حرص المَجْمَع في أولوية الاهتمام بتعزيز العربيَّة لدى النشء، بالإضافة إلى العديد من المبادَرات والجهود اليوميَّة الأخرى التي يبذلها هذا المَجْمَعُ الفتِيُّ الذي حقَّق خلال فترة وجيزة صيتًا محليًّا وعالميًّا، بل حقَّق الريادةَ الدوليَّةَ في خدمة العربيَّة بمبادَراته المبتَكَرة والإبداعيَّة الرائدة.
ممَّا تقدَّم يتَّضِح لنا جليًّا ما تُقدِّمه المملكةُ العربيَّةُ السعوديَّةُ في مجال خدمة اللُّغة العربيَّة منذ تأسيس المملكة وصولًا إلى هذه اللحظة، وكذلك مَجْمَع الملك سلمان العالميّ للُّغة العربيَّة الذي بذَل جهودًا سبَّاقةً محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا سعيًا إلى تحقيق رؤية المملكة (2030) وللنهوض بالعربيَّة واستئناف دورها الحضاريّ في مجال العلم والمعرفة والثقافة وبناء الحضارة الإنسانيَّة.
** **
د. عيسى صالح الحمادي - مدير المركز التربوي للُّغة العربية لدول الخليج بدولة الإمارات - الشارقة - أستاذ مُساعِد بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانيَّة