عبر موقعه الشامل والمفصل، يعرّف مجمع الملك بن سلمان العالمي للغة العربية عن نفسه أفضل تعريف، عن رؤيته وعن أهدافه الاستراتيجية ومشاريعه ومنصاته العديدة، ما يمكن أن نضيفه، نحن الناظرين من الخارج والمعنيين برسالة تعليم اللغة العربية ونشرها بأحدث الطرق التي تليق بها، هو الإمكانيات التي نراها من بعيد، بوصفنا مستخدمين عاديين ولكن كذلك بوصفنا باحثين ودارسين ومسؤولين عن بنى تُعنى بشؤون اللغة العربية وتعلمها وتعليمها خارج العالم الناطق بالعربية.
من موقعي كمديرة لمركز اللغة والحضارة العربية من معهد العالم العربي في باريس، يلفتني في المجمع الإمكانيات المادية والعلمية المكرسة لتعزيز دور اللغة العربية وبعدها الثقافي، هذه الإمكانيات السخية تعكس بعد النظر الإستراتيجي في تناول موضوع اللغة وتخطيط سياساتها، حيث من النافل أن نذكّر بدور اللغة الأم في أي مساق تطويري، والملفت أكثر هو إتاحة الفرصة للفاعلين في مجال اللغة العربية وتعليمها والتخطيط لها أينما كانوا لأن يستفيدوا من هذه الإمكانيات. ذلك بينما نعيش اليوم مفارقة تتمثل في الانتشار الواسع للوسائط والإمكانيات والمعرفة المرقمنة في العالم ولكن وفي نفس الوقت صعوبة الوصول في دول الجنوب لكل المنشورات العلمية أو ما يعرف بالمصادر المفتوحة Open Ressources، من المشجع في ظل هذه المفارقة أن نجد الكثير من منشورات ومنصات المجمع متاحة ومفتوحة للجمهور العريض المهتم. من شأن إثراء المحتوى العلمي الرصين عن اللغة العربية المنشور بالعربية أن يغير من ثقل اللغة عالمياً، هذا بحد ذاته جانب ثمين في السياسات اللغوية التي يتم التخطيط لها. الاختبار المعياري المقنن «همزة» يدخل أيضاً في صلب السياسات اللغوية. حين تصبح الكفاية اللغوية قابلة للقياس وفق مرجعية ومعايير، هذا من شأنه أن يعزز مكانة اللغة في سوق العمل العالمي وفي التبادلات الثقافية والقيمية، حيث يرتكز إلى الاختبارات المقننة لتوظيف الكوادر والمصادر البشرية.
بعدسة باحث لساني أو باحث في طرائق تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها أو حتى باحث في التاريخ أو أي فرع من فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية، تعد منصة فلك لمدونات العربية كنزاً لا يقدر بثمن نظراً لما تتضمنه من مدونات متنوعة محلية وعربية ونظراً لأعداد النصوص وأعداد الكلمات وقوائم الشيوع. بمساعدة هذه المنصة يمكن لمعد البرامج التعليمية ومعدّ الاختبارات المعيارية المقننة على سبيل المثال أن يحدد بطريقة موضوعية وكميّة مستوى المفردات المستخدمة بالقياس لشيوعها، يمكن للباحث في اللسانيات العامّة أن ينمذج تراكيب وأنماط صرفية من خلال البحث في المدونات المتاحة عن الاستخدامات المركبة والنظر في السياقات والسوابق واللواحق. من خلال محددات البحث المركبة والمرتبطة أحياناً بالحقبة الزمنية يمكن للباحث التاريخي أو الباحث في تاريخ الأفكار أو تحليل الخطاب مقارنة الكلمات والجمل واستخداماتها عبر الحقب المختلفة.
هناك منصة المعاجم، المنصة الثمينة التي تساعد الطلاب والأساتذة والمترجمين وتوفر إمكانيات البحث من مناظير متعددة تسهل الاستخدام وتنوع الأساليب التقليدية المعتمدة على البحث بالجذر. وهناك المستشار اللغوي حيث تجمع فيه أسئلة لغوية لمستخدمين عاديين ضمن ما سمي بخزانة الاستشارات، بغض النظر عن أهمية أن يجد المستخدمون العاديون إجابات عن أسئلتهم، فإن خزانة المستشار اللغوي بحد ذاتها مدونة لقواعد معاصرة أي أكثر القواعد الضرورية للاستخدام المعاصر للغة. هذه المعطيات مهمة جداً للتقويم ولمرجعية المستخدم ولكنها مهمة كمعطيات على مستوى ثاني.
من وجهة نظر الطلاب والمستعربين ومتعلمي اللغة العربية من غير الناطقين بها ومعلمي اللغة العربية، يوفر مجمع الملك بن سلمان الكثير من إمكانيات التعلم الذاتي والوسائل المرقمنة ومنصات على اليوتيوب للصغار من متعلمي العربية. يوفر المعهد فرصاً للإنغماس اللغوي ودورات مكثفة لطلاب العربية ودورات تدريب مدرسين على كافة المستويات.
ما يمكن أن نستشرفه من إمكانات وأفق لمشروع مجمع الملك سلمان الضخم كبير وواعد، إلا أن أهم ما يبدو أنه قادر على تحقيقه بانفتاحه على العالم والفاعلين في مجال اللغة العربية من كل الأصقاع هو قدرته على بناء مجتمع افتراضي تفاعلي على مستوى عالمي للمؤسسات والأفراد الفاعلين في مجال اللغة العربية، ونرى أن الانفتاح بهذا الاتجاه سيؤتي دائماً أكله الطيبة عبر توليد ذكاء جمعي وقبل كل شيء تشاركي تتضافر فيه الجهود بطريقة ندّية ومتساوية.
** **
د.نسرين الزهر - مديرة مركز اللغة والحضارة العربية في معهد العالم العربي في باريس