منذ إنشائها في العام 2000، أَوْلَتْ مؤسّسةُ الفكر العربيّ، بتوجيهٍ من رئيسها صاحب السموّ الملكيّ الأمير خالد الفيصل، وبدعْمٍ من مجلسَيْ أمنائها وإدارتها، اللّغةَ العربيّةَ عنايتها الخاصّة، وأحلَّت مسألةَ تعزيزها وحمايتها وتطوير طرائق تعليمها وتعلّمها في صميم رسالتِها وعلى رأس أولويّاتها. فهي تعتبرها لغةَ القرآن الكريم، وذاكرةَ الحضارةِ العربيّة العريقة، وسجلَّ إنجازاتها الفكريّة والثقافيّة والأدبيّة والعِلميّة المُضيئة، وركناً أساسيّاً في الهويّة العربيّة الجامِعة. وتعرف المؤسّسةُ حقّ المعرفة دَورَ اللّغة العربيّة المحوريّ في تمتين روابط التماسُك الاجتماعيّ، وبناء الشعور بالانتماء إلى الجماعة، وتعزيز روح المُواطَنة، وفي التنشئة على القيَم، وتَعرف أنّها الأداةُ الأولى للتعليم في منطقتنا، أي لتحصيل المَعارف، واكتساب المهارات، والانفتاح على فضاءات الفكر والثقافة والعلوم تمهيداً لولوج أسواق العمل. ولذلك دَأبَتْ على إطلاقِ المُبادرات وتنفيذِ المشروعات الآيلة إلى تجسيد هذه الثوابت وإلى خدمة هذه الأهداف وتحقيقها.
وفي هذا الإطار، نحن نُتابع عن كثب ما تبذله المَملكة العربيّة السعوديّة من جهودٍ مُكثَّفة ودؤوبة من خلال وزاراتها المَعنيَّة وجامعاتها ومؤسّساتها، من أجل تعزيز اللّغة العربيّة، وتطوير برامجِها التعليميّة، وتأهيل مُعلِّميها، وتحفيز التلامذة والطلّاب على تعلُّمِها. ومَن منّا لا يَعرف ويُقدِّر الموقعَ المحوريّ الذي يحتلّه «مَجمع الملك سلمان العالَميّ للّغة العربيّة»، والدَّور الأساسيّ والمُميَّز الذي يضطلع به على هذا الصعيد؟!
المَجمع وانطلاقته من أرض الواقع
انطلقت أعمال «مَجمع الملك سلمان العالميّ للّغة العربيّة» من الواقع المُقلق للّغة في مُجتمعاتنا، والذي تتمثّل أبرز مظاهره بضُعف تداوُل العربيّة بسبب طغيان استخدام اللّغة الأجنبيّة كوسيلة للحصول على المَعرفة، وكذلك استئثارها بالعِلم والتقانة، ناهيكم بتشرذُم المُبادرات التي تتبنّاها دولُنا العربيّة المُختلفة للنهوض بلغة الضّادّ، من دون إقامة أيّ تنسيقٍ أو رابطِ تواصُلٍ بنّاءٍ و مُثمرٍ بينها؛ والافتقار إلى المُحاولات الجادّة من طرف الباحثين العرب، والمؤسّسات الرسميّة والأهليّة لتوطين العِلم والمَعرفة باللّغة العربيّة، وعدم استناد هذا العمل إلى استراتيجيّةٍ وتخطيطٍ عِلميَّيْن.
ثمّة أسبابٌ عدّة تضافرت في تعزيز الواقع المُقلق للغتنا العربيّة، منها الإيديولوجيّ والسياسيّ، ومنها التبعيّة العمياء للحداثة وأنموذجها الجاهز، الذي أودى ببلداننا إلى أن تكون بلداناً مُستهلِكة لا مُنتِجة على الصعد الاقتصاديّة والتنمويّة والتربويّة واللّغويّة والثقافيّة كافّة؛ ومنها ما يتقاطع مع هذه الأسباب كلّها، جاعلاً من موضوع اللّغة العربيّة متراساً بين جماعات الاتّجاهات الثقافيّة وأيديولوجيّاتها المُختلفة.
لكنّ أهميّة أعمال «مَجمع الملك سلمان العالميّ للّغة العربيّة» تكمن في اشتغاله على تهْيِئَةِ المَكانة المركزيّة للّغة العربيّة في وسط مُجتمعها، راسِماً رؤيته بـ»الريادة والمرجعيّة العالَميّة في خدمة اللّغة العربيّة»؛ ومُحدِّداً رسالته بـ» العناية والاعتزاز باللّغة العربيّة، وتمكين إسهامها الحضاريّ والعلميّ والثقافيّ؛ لتكون المملكة العربيّة السعوديّة رائدةً في مجالات اللّغة العربيّة وتطبيقاتها»؛ واضعاً مساراتِ عملٍ أربعة أو استراتيجيّات أربع هي: السياسات اللّغويّة، الحوسبة اللّغويّة، التعليم والتعلّم، الثقافة اللّغويّة أو البرامج الثقافيّة. وهي مسارات أو استراتيجيّات لا بدّ أن تؤدّي عمليّاً إلى تمكين العربيّة في مُجتمعها، على اعتبار أنّ إيجاد سياسة لغويّة تتبنّى لغة الضادّ، يجعل منها لغة حياة في التعليم، والبحث العِلميّ، ومجالات العمل العاديّة منها والتخصُّصيّة، في القطاعَين العامّ والخاصّ. مع ضرورة الإشارة إلى أنّ السياسة اللّغويّة هذه لا تقتصر على تعزيز مكانة العربيّة في مُجتمعاتها
فحسب، بل تسعى إلى تعزيزها بين اللّغات المُهيمِنة عالَميّاً.
أمّا تهيئة الأرضيّة لتعليم العلوم والتقانة، أو الحوسبة اللّغويّة، فأُريد منها مواكَبة طريقة التعامُل مع التحوّل الذي يشهده عصرنا الرقميّ الحاليّ، والذي لا يشمل التغيُّرات الجذريّة في طبيعة النشاطات العِلميّة والثقافيّة، بل الاجتماعيّة أيضاً، بقدر ما يشمل آليّة مُمارَسة هذه النشاطات.
ولا تخرج عن هذا السياق طبيعة التعليم والتعلُّم والتدريب، التي تتّجه نحو التعلُّم مدى الحياة، ونحو حاجة القوى العاملة إلى مَعرفةٍ وخبرةٍ أعلى من السابق، والاتّجاه نحو آليّات التعلُّم والتعليم عن بُعد، والكِتاب الإلكترونيّ وغيرها من التحوّلات التي لا ب دّ للّغة العربيّة من مواكبتها، لا لحمايتهما وضمان حاضرها ومُستقبلها فقط، بل أيضاً لحماية الماضي الثقافيّ، وحفْظه رقميّاً. فحين أطلقت «مؤسّسةُ الفكر العربيّ» مشروعها «لننهض بلغتنا»، لوحظ عدم جاهزيّة العربيّة لتعليم العلوم والتقانة، واستخلاص هذه النتيجة تأسَّس على عوامل مُتعدّدة، منها: أوّلاً، ضعف كميّة مُفردات أو مُصطلحات مَعاجمها المُختصّة ونوعيّتها الضعيفة، وثانياً، عدم توفُّر المؤلّفات والمجلّات المَرجعيّة الكفيلة بأن تُمثِّل مَراجِع باللّغة العربيّة، يتداولها الجامعيّون بينهم في المستوى المطلوب، وثالثاً، عدم توفُّر المُدرّسين المُؤهَّلين للتدريس بهذه اللّغة، ورابعاً تجارب التعريب التي أَدّت إلى انخفاض مستوى الطلّاب، وضمور مَعارفهم وقُدراتهم التواصليّة. وهو الأمر الذي يتقاطع مع الاستراتيجيّة الرّابعة لـ»مجمع الملك سلمان العالميّ للّغة العربيّة» حول الثقافة اللّغويّة أو البرامج الثقافيّة؛ حيث يتبنّى المَجمع مسألةَ التحوُّل في طريقة التعامُل مع التراث الثقافيّ والتأثير في النشاط الثقافيّ في المُجتمع العربيّ: «»يُعزِّز مجمع الملك سلمان العالميّ للّغة العربيّة نشْرَ ثقافة اللّغة العربيّة محليّاً وعالَميّاً وإحياء تراثها من خلال توظيف أفضل الأساليب المُبتكرة؛ لنشر ثقافة استخدام اللّغة العربيّة، وتعزيز الانتماء إليها، والوصول إلى أكبر شريحة مُمكنة؛ لعكس جمالها وإحيائها محلّيّاً وعالميّاً».
تنوُّع أنشطة المَجمع ودلالاته
تعدُّد أنشطة المَجمع وأعمالِه ومُبادراتِه الكثيرة والمُتنوّعة بتنوُّع مَدياتها، بين قصيرة المدى ومُتوسّطة وطويلة، يجعل منه مرجعيّةً علميّةً في اللّغة العربيّة. نذكر على سبيل المثال لا الحصر، سلسلة مجلّاته الأكاديميّة المُحكّمة، مثل مجلّة «التخطيط والسياسة اللّغويّة»، أو «تعليم العربيّة لغة ثانية»، أو «اللّسانيّات العربيّة». ومن الكُتب نذكر «العربيّة الفصحى ومُقارباتها الاستشراقيّة»، و»الوصل والوقف الصوتيّ المعياريّ في اللّغة العربيّة المنطوقة: تأصيل، وتوصيف، ومُعالَجة حاسوبيّة»، و»إضاءات في الترجمة الشفويّة من العربيّة وإليها في المنظّمات الدوليّة والإقليميّة»، و»100 سؤال عن اللّغة العربيّة»(نسخة إنكليزيّة تركِّز على أكثر الأسئلة وروداً عن اللّغة العربيّة، وتعلّمها، وثقافتها)، «الإثبات في العربيّة: دراسة نحويّة تداوليّة»، «اللّغة الأم. . مفاهيم وقضايا».
أمّا منصّاته، فنذكر منها منصّة «فلك» بوصفها «بوّابةً شاملةً للمدوّنات اللّغويّة العربيّة يمكنها خدمة الأغراض المختلفة لاستقراء الظواهر اللّغويّة، بواسطة رصيد البيانات اللّغويّة الضخم المضمَّن في مدوّنات المنصّة، وقد جُمِعت نصوصها من سياقاتٍ ومستوياتٍ لغويةٍ متنوّعةٍ متدرّجةٍ بين الفصحى والعاميّة، ومن مصادر لُغويّة عديدة مثل: وسائل التواصل، والمواقع الإخباريّة، والتقارير الرسميّة وغيرها، على أن تَخضع للتطوير والتحسين المُستمرَّيْن بالاستعانة بما يَصل إليها من ملاحظات جمهور المُستخدِمين وتعليقاتهم»؛ و»منصّة المستشار اللّغويّ»، التي تستقبل من خلالها نخبةٌ من المُختصّين والباحثين اللّغويّين الاستشاراتِ اللّغويّة ويجيبون عليها وفقاً لآرائهم؛ و»منصّة سوار» التي تتيح للمُستخدِمين «البحث عن الكلمات أو المصطلحات في المعاجم المنشورة على المنصّة، بحيث تتيح هذه الميزة إنشاء معاجم خاصّة بدءاً من اختيار المداخل ووسمها بالخصائص (الصرفيّة والتصريفيّة، والنحويّة، والدلاليّة) إلى صوغ (الشواهد، والأمثلة، والسياقات)»؛ ومنصّة «معجم المصطلحات العربيّة الموحّدة»، وغايتها «تسهيل وصول المُستفيدين إليها، وسهولة تطويرها، وتحديث بياناتها بما يستجدّ من مصطلحات، وزيادة على دورها في بناء معاجم جديدة للعلوم المُختلفة، حيث ستتضمَّن نشْر جميع ما أصدرته منظّمة (الألكسو) من معاجم للمصطلحات على شكل معجمٍ موحَّد يَخدم ترجمة المصطلحات وتعريبها في جميع البلدان العربيّة. كما يجري توحيد أكثر من 60 معجماً مكوَّناً من أكثر من مليون مصطلح في منصّة رقميّة حاسوبيّة واحدة، تتمتّع بوظائف فريدة غير متوفّرة في مواقع المعاجم الحاليّة، علاوةً على سهولة استخدام أدواتها من مؤلِّفي المعاجم والمُختصّين في المصطلحات العلميّة؛ وهو ما سيعمل على الإثراء المستمرّ للمعجم، وتوحيد الجهود».
الأعمال والبرامج والمُبادرات الكثيفة للمَجمع، والتي تتوزَّع بين إصداراتٍ(بحوث ودراسات، مجلّات أكاديميّة محكّمة، وتقارير، ومؤشّرات، شأن مؤشّر اللّغة العربيّة- وهو عبارة عن أداة استرشاديّة تُساعِد صنّاع السياسات اللّغويّة على إعداد تقارير دوريّة عن حالة لغة الضادّ-...إلخ) وبرامج التعليم والتدريب، والجوائز والمسابقات، والمؤتمرات، والندوات، وحلقات النقاش، والمُحاضرات، والسياسات والمعايير، وتأهيل الإداريّين لغويّاً، وتأهيل الباحثين علميّاً، و» تفعيل اليوم العالميّ للّغة العربيّة» عالميّاً، ...إلخ، كلّ هذه الأعمال والبرامج والمُبادرات تغذّي بعضها بعضاً في خدمة أهداف تعزيز البحث والنشر باللّغة العربيّة، وتمكين المرجعيّة العالميّة للمَجمع من خلال بناء السياسات والمعايير اللّغويّة وتطويرها، وتحقيق المرجعيّة العالميّة في المدوّنات اللّغويّة والمعاجم العربيّة، وتعزيز تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ في المُعالَجة الآليّة للّغة العربيّة وتطويرها محليّاً وعالميّاً، وتطوير مستوى كفاية تعلُّم اللّغة العربيّة وتعليمها محليّاً وعالميّاً، وتعزيز نَشْر ثقافة اللّغة العربيّة محليّاً وعالميّاً وإحياء تراثها.
فيطيب لي أن أعربَ عن تقديرنا العميق لهذا المشروع الرائد والحيويّ والطموح الذي ينفّذه «مجمع الملك سلمان العالَميّ للّغة العربيّة»، وللعمل الجبّار حقّاً الذي يقوم به، وللإنجازات المُضيئة التي يُراكمها يوماً بعد يوم؛ كما يطيب لي أن أعربَ لسعادة أمينه العامّ الأستاذ الدكتور عبد اللّه بن صالح الوشمي وفريق مُعاونيه وجميع المُشاركين في نشاطاته، عن عاطر الثّناء على الجهودِ البنّاءة والمُثمرة التي يبذلونها من أجل تفعيل رسالة المَجمع وتحقيق أهدافه.
** **
أ.د.هنري العويط - المدير العام لمؤسسة الفكر العربي