في ظل امتداد الزمن وتشابك حلقات التاريخ، تطل المملكة العربية السعودية من على منصتها الحضارية، حاملةً في يديها ميراثًا عريقًا من البطولة والتأسيس، وفي قلبها رؤية طموحة تدفعها إلى مصاف الدول العظمى. فإذا كان يوم التأسيس يُجسِّد لحظة الوحدة الأولى عام 1727م، حين أرسى الإمام محمد بن سعود دعائم كيانٍ جمع شتات الجزيرة العربية تحت راية واحدة، فإن المملكة اليوم تُعيد صياغة هذا الإرث في قالب معاصر، حيث تتحول من ملحمة البقاء إلى قلب الدبلوماسية العالمية، تجذب إليها أنظار القوى الكبرى من أمريكا إلى روسيا، في ظل رؤية 2030 التي حوَّلت التحديات إلى سلم للصعود.
لم تكن رحلة السعودية مجرد مسيرة جغرافية أو سياسية، بل كانت حكاية شعبٍ آمن بقدرته على صنع المعجزات. فمنذ أن وُلدت الدولة السعودية الأولى، مرورًا بالتأسيس الثاني على يد الملك عبدالعزيز، وصولًا إلى العهد الزاهر بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، ظلت المملكة تكرِّس مفهومًا فريدًا للنهضة: نهضة لا تنسى جذورها الراسخة في عمق الصحراء، ولا تتوقف عن استشراف آفاق المستقبل. وهكذا، جاءت رؤية 2030 لتعبر عن روح هذا التزاوج بين الأصالة والحداثة، فلم تكن خطة اقتصادية فحسب، بل مشروعًا حضاريًا أعاد تشكيل هوية الدولة، وجعلها قبلةً للاستثمارات العالمية والشراكات الاستراتيجية.
من رمال الصحراء إلى عوالم التكنولوجيا: مشاريع تُعيد تعريف المستقبل
لعل أبرز ما يميز المسيرة السعودية الحديثة هو قدرتها على تحويل الموارد الطبيعية إلى أدواتٍ للتأثير الدولي. فبينما كانت المملكة ولا تزال العمود الفقري لأسواق النفط العالمية، أدركت مبكرًا أن الاعتماد على الذهب الأسود وحده لن يصنع المستقبل. فانطلقت مشاريع كبرى مثل نيوم، المدينة الذكية التي تُعيد تعريف مفهوم العمران والاستدامة، ومشروع البحر الأحمر، الذي يحول السواحل السعودية إلى لوحة فنية تجمع بين روعة الطبيعة وعبقرية التخطيط البشري. هذه المشاريع لم تكن مجرد أحجار تضاف إلى البنيان الاقتصادي، بل كانت رسائل واضحة للعالم: السعودية قادرة على أن تكون رائدة في مجالات الطاقة النظيفة، والتكنولوجيا المتقدمة، والسياحة الفاخرة، دون أن تفقد ارتباطها بترابها وتاريخها.
فمشروع نيوم، على سبيل المثال، ليس مجرد مدينةٍ ذكية، بل هو رؤية لمجتمعٍ يعتمد على الطاقة المتجددة بنسبة 100 %، ويُدمج بين الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة لخلق نظامٍ حيويٍ متكامل. هنا تخطط المملكة لإنشاء مراكز أبحاث عالمية تجذب العقول المبتكرة من كل حدبٍ وصوب، لتصبح نيوم مختبرًا مفتوحًا للتجارب التكنولوجية التي قد تغيّر وجه البشرية. أما مشروع البحر الأحمر، فيهدف إلى إنشاء وجهة سياحية فريدة تحافظ على البيئة البحرية، باستخدام تقنيات البناء المستدامة وأنظمة الطاقة الشمسية، مما يعكس التزام المملكة بموازنة التنمية مع الحفاظ على التراث الطبيعي.
ولا تقف الطموحات عند هذا الحد، فمشروع القدية الترفيهي يعد بواحة للثقافة والرياضة، يُخطط له أن يكون أكبر حديقة ترفيهية في العالم، مزودًا بمسارح عالمية ومنشآت رياضية أولمبية. هذه المشاريع العملاقة ليست مجرد استثمارات مالية، بل هي جزء من استراتيجية لتنويع الاقتصاد، وخلق فرص عمل للشباب، وتعزيز الهوية الوطنية من خلال ربط الماضي بالمستقبل.
التحول الاجتماعي: المرأة والتعليم كركائز للنهضة
ولا يقلُّ عن ذلك أهميةً التحول الاجتماعي الذي تشهده المملكة، والذي يُعدّ جزءًا لا ينفصل عن رؤيتها الشاملة. فتمكين المرأة السعودية، الذي تجلّى في مشاركتها الفاعلة في سوق العمل ووصولها إلى مناصب قيادية، لم يكن قرارًا سياسيًا عابرًا، بل كان استعادةً لدورها التاريخي كشريكة في صنع الحضارة. وكما كانت المرأة حاضرةً في ساحات المعارك قديمًا لدعم الوحدة، ها هي اليوم تحتل مكانتها في ساحات العلم والاقتصاد، لتثبت أن النهضة لا تكتمل إلا بوجود نصف المجتمع.
ففي مجال العلوم، أصبحت السعودية تُبرز نماذج مشرقة مثل الدكتورة حياة سندي، العالمة في التقنية الحيوية، والتي تُعدّ أول امرأة عربية تنضم إلى أكاديمية العلوم في نيويورك. وفي الرياضة، حققت لاعبات المنتخب السعودي إنجازات في بطولات دولية، بينما تُنظم المملكة سباقات الفورمولا 1 وسباقات الخيل بمشاركة واسعة من النساء. أما في الفنون، فقد برزت أسماء مثل المخرجة هيفاء المنصور، التي نقلت السينما السعودية إلى العالمية عبر أفلامها التي تجمع بين العمق الثقافي والجمال البصري.
هذا إلى جانب الثورة التعليمية التي تعيد صياغة المناهج لتربي جيلًا يؤمن بالتفكير النقدي، ويسعى إلى الابتكار، ويحمل راية المملكة في المحافل الدولية. فجامعات مثل جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) أصبحت منارةً للبحث العلمي، حيث تُجرى أبحاث متقدمة في مجالات الطاقة الشمسية وتحلية المياه. كما أن برامج الابتعاث الخارجي، التي أرسلت آلاف الطلاب إلى جامعات مرموقة مثل هارفارد وستانفورد، تعكس إيمان القيادة بأن الاستثمار في العقول هو أساس التقدم.
الدبلوماسية السعودية: جسرٌ بين الشرق والغرب
أما على الصعيد الدولي، فقد نجحت الدبلوماسية السعودية في نسج شبكة من العلاقات تعكس تنوع مصالحها واستراتيجياتها. ففي الوقت الذي تعتمد فيه دول كبرى مثل الولايات المتحدة على السعودية لتحقيق استقرار أسواق الطاقة، تسعى روسيا إلى تعزيز شراكاتها مع المملكة في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية. بل إن المبادرات السعودية في مجال الهيدروجين الأخضر والذكاء الاصطناعي جعلتها شريكًا جاذبًا حتى للدول التي تختلف معها سياسيًا، إذ بات العالم يرى في المملكة جسرًا للتعاون بين الشرق والغرب، وقوةً فاعلةً في مواجهة التحديات العالمية كالتغير المناخي، من خلال مبادرات مثل الشرق الأوسط الأخضر.
فمبادرة الهيدروجين الأخضر، التي تهدف إلى إنتاج وقود نظيف بتكلفة تنافسية، تعكس رغبة المملكة في قيادة تحول الطاقة العالمي. وقد وقّعت السعودية اتفاقيات مع دول مثل ألمانيا واليابان لتصدير هذه الطاقة، مما يعزز مكانتها كشريك موثوق في المعادلة البيئية. أما في مجال الذكاء الاصطناعي، فأطلقت المملكة استراتيجية وطنية تهدف إلى دخول قائمة العشر الأوائل عالميًا في هذا المجال، عبر تأسيس مراكز أبحاث وشراكات مع شركات مثل IBM وسامسونغ.
ولا تقتصر الشراكات على الجانب التكنولوجي، فالمملكة تعمل أيضًا على تعزيز التعاون الثقافي مع دول مثل فرنسا والصين، من خلال توقيع مذكرات تفاهم لترميم المواقع الأثرية وإنشاء متاحف مشتركة. هذه الخطوات تُظهر أن الدبلوماسية السعودية لم تعد مقتصرةً على النفط، بل أصبحت متعددة الأوجه، تعتمد على القوة الناعمة لتعزيز النفوذ الدولي.
الثقافة: لغة الحوار التي تعانق السماء
ولا يُغفَل هنا الدور الثقافي الذي تلعبه المملكة كأداةٍ ناعمةٍ لتوطيد العلاقات الدولية. فالمهرجانات الضخمة مثل موسم الرياض وجدة التاريخية، لم تكن مجرد فعاليات ترفيهية، بل حوّلت المملكة إلى منصةٍ للحوار الحضاري، حيث تلتقي ألوان الفنون والآداب من كل حدبٍ وصوب. هذا الانفتاح، الذي يُلامس روح الشباب ويستحضر عبق الماضي، يعكس إدراكًا عميقًا بأن الثقافة هي اللغة الأم للدبلوماسية، خاصةً في عصرٍ تزداد فيه الحاجة إلى حوارٍ يعبر عن التنوع ويبني الجسور.
فموسم الرياض، على سبيل المثال، يستقطب ملايين الزوار سنويًا، ويقدم عروضًا عالمية تتراوح بين الأوبرا والحفلات الموسيقية، إلى جانب معارض الفن التشكيلي التي تُبرز إبداعات فناني المملكة. أما مهرجان الجنادرية، فيجسد الهوية السعودية عبر عروض التراث الشعبي والمأكولات التقليدية، مما يخلق حوارًا بين الأجيال والثقافات.
التحديات: محطات على طريق النجاح
رغم الإنجازات الكبيرة، فإن الطريق إلى تحقيق رؤية 2030 ليس مفروشًا بالورود. فالمملكة تواجه تحديات اقتصادية مع تقلبات أسعار النفط، ما يستدعي تسريع وتيرة التنويع الاقتصادي. كما أن التغييرات الاجتماعية السريعة تتطلب تعزيز التماسك المجتمعي، ومواكبة تطلعات الشباب الذين يشكلون النسبة الأكبر من السكان. إلا أن القيادة السعودية تعاملت مع هذه التحديات بمرونة، عبر سياسات اقتصادية ذكية مثل برنامج خصخصة الشركات، وإطلاق صندوق الاستثمارات العامة لتمويل المشاريع التنموية.
أما على الصعيد الدولي، فإن تعزيز مكانة المملكة كقوة دبلوماسية يتطلب موازنةً دقيقة بين المصالح الإقليمية والتحالفات العالمية. هنا، تبرز نجاحات المملكة في قيادة تحالفات مثل مجلس التعاون الخليجي، والمبادرات الإنسانية مثل مركز الملك سلمان للإغاثة، الذي قدم مساعداتٍ لملايين المحتاجين في اليمن وسوريا وفلسطين.
الخاتمة: تأسيسٌ لا يعرف التوقف
في ذكرى يوم التأسيس، تذكُر السعودية إرثها العريق بينما تتطلع إلى آفاق مستقبلية لا تحدها حدود. بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تسير المملكة بخطى ثابتة لتحقيق رؤية 2030، التي حوَّلتها إلى قبلة للدول والمستثمرين والعقول المبتكرة. اليوم، السعودية ليست فقط قلب النهضة العربية، بل هي رمزٌ للدبلوماسية الفعّالة التي تبنى الجسور، وتُرسّخ السلام، وتصنع المستقبل.
إنها قصة شعبٍ يؤمن بأن الماضي ليس مجرد ذكريات، بل وقودٌ لطموح المستقبل، وأن الدبلوماسية ليست مفاوضاتٍ فوق الطاولات، بل هي صناعة ثقةٍ عبر الإنجازات. هكذا، تمضي السعودية بخطى واثقة، تُعيد في كل عامٍ كتابة ملحمة التأسيس بأحرف من نور، تُذكِّر العالم بأنها لم تكن يومًا مجرد نقطة على الخريطة، بل تاريخٌ يمشي على قدمين، وقلبٌ ينبض بالحضارة، وقبلةٌ يتجه إليها كل من يبحث عن شراكةٍ تصنع المستقبل.
** **
د. عبدالعليم غالب نصر - أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المساعد بجامعةعدن