حين قرر الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، أن يوحد شطرا الدرعية، ويجمع كلمة أهلها، ويثبت وحدتهم تحت قيادته عام 1139هـ الموافق 22 فبراير عام 1727م، أصبحت الدرعية بعد هذا التوحيد تمثل انطلاق دولة في ذاتها وفي المنطقة حولها؛ وكان تحقيقها للأمن أحد أبرز أهدافها، وهو ما أدى إلى استقرار الحياة، وظهور مؤشرات واضحة لاستتباب أمن المجتمع، وانطلاق حياة الناس في جو يحفه الهدوء والطمأنينة وينعم فيه المواطنون والمقيمون بممارسة أنشطتهم المعاشية من فردية وعامة وجماعية؛ من زراعة ورعي وتجارة وصناعة، ومن تعلم وتعليم وتجارة وحل وسفر وترحال وبخاصة في سفر رحلة الحج وتأمين طرقها ومشاعرها.
وبدأت مظاهر الدولة السعودية تتبلور في مؤسسة حكم تقوم على كيان له قيادة راشدة، ودولة تعتمد على العلم وعلى منهجية ذات مرجعية تستمدها وتقوم عليها من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الثابتة، صلى الله عليه وسلم، على مصادره الأصلية المعتد بها؛ ومن هنا كانت (دولة الدرعية) - بمنطلقاتها السامية وأهدافها النبيلة ومنجزاتها المتحققة، وحملها لمشعل النور والتعليم والتوعية الدينية، وسعيها الموفق للقضاء على عوامل الجهل والتخلف والعدوان والظلم - جوهرة السعودية، وحبة القلب فيها؛ وذلك بما تهيأ فيها من ظروف مناسبة حققت لها أسباب التمكن والتوسع والانتشار، ومنح الدولة منهجية مشروعها الإصلاحي التجديدي، وثبت شرعية الدولة واستحقاق الولاية فيها، ومكن لبسط نفوذها وسلطانها في العباد والبلاد؛ فما لبثت الدولة في وقت وجيز أن أصبحت ذات حضور وقوة وتأثير في نفوس الناس على مختلف بلدانهم وأصقاعهم، وبسطت نفوذها القوي، وأثرها الموضوعي العميق في القلوب والعقول، وتوسع امتدادها في أنحاء الجزيرة العربية في ثقة وثبات ورسوخ ويقين؛ بل تجاوز أثرها الفكري إلى مناطق أخرى في العالم العربي والإسلامي.
دخلت الدولة في مرحلة سياسية واجتماعية وتنظيمية جديدة، وأكسبت الدولة تميزا وتطورا عظيما في كيان الإمارة التي كانت تقوم على صفة العشائرية المحدودة في الاهتمام والغاية، وانتقلت إلى كيان سياسي مؤسسي، له رسالة ووظيفة وأهداف، ويعتمد على أساس دستوري (أساسه القرآن والسنة) ومنهج ثابت في الحكم ينطلق منه نظام الحكم وسياسة الدولة ومسؤولية القيادة في الالتزام بتطبيق النظام وتحقيق العدالة الخاصة والعامة.
ومن هنا وجدنا الدولة في تاريخها تنجح نجاحا باهرا في تحقيق (الأمن والسلام) لذلك المجتمع الذي كان في مرحلة سابقة لهذا العهد الجديد أمرا معدوما أو شبه معدوم، ثم تحقق للناس أفرادا وأسرا وقبائل وعشائر الاجتماع في وحدة عظيمة وأخوة وتعاون تحت قيادة واحدة (صالحة مصلحة) تستهدف خير الجميع ووفاقهم ورخاءهم، وتحقق لهم الأمن والأمان والاستقرار والرخاء؛ بما يمكنهم من الانطلاق في مناحي حياتهم للعمل والبناء وتحقيق ما يصبون إليه من مشروعات ومكاسب، وما يسعون إليه من أهداف وغايات حضارية وعمرانية في معاشهم وحياتهم.
وقد دخلت (الجزيرة العربية) منذ ذلك العهد (الفاتح الزاهر) دورة جديدة عامرة بالحضور والانتعاش وخرجت من (العزلة والتهميش) الذي طال أمده من حين انتقلت عاصمة الحكومة من المدينة إلى الشام في العصور الأولى لتاريخ الإسلام.
وعلى الرغم من أن (الدولة السعودية) قد واجهت شيئا من المكائد والعدوان والمكر (والكيد الخارجي) من أعداء الحق والخير المتربصين بأهله؛ فإنها ظلت عصية على تلك المكائد والعداوات ومحالات النيل منها، وذهب أولئك الأعداء (الموهومون) هباء منثورا وسرابا لا حقيقة له، وبقيت (السعودية العظمى) راسخة الجذور ثابتة الأركان مكينة الكيان؛ بما لها من (ثوابت العقيدة وقوة الإيمان) ومنهج العدل والإصلاح الدائم المستمر، وقوة المكانة العميقة لها في نفوس الناس من مواطنيها ورعاياها؛ بل إن تلك العداوات والمكائد التي واجهتها تكسرت على صخرة قوة الدولة ومنعتها الراسخة رسوخ الجبال الرواسي في جذور الأرض إنسانا ومكانا وبيئة وعلاقة عميقة، واندحرت تلك المحاولات، ورد الله كيد أهلها من الفجار، وشر أربابها من الأشرار، إلى نحورهم، وذهبوا إلى الفناء والدمار، وبقي ما ينفع الناس، وبقيت دولة الخير والنماء حية تتجدد وتمدد وتتطور من قوة إلى قوة ومن ازدهار إلى ازدهار، ومن منعة إلى منعة هي أقوى. وأوضح، وهي أبعد مدى في السعة والانتشار، وأكثر تأثيرا؛ ليس في عالمها الوطني بل تجاوزت ذلك إلى عالمها العربي والإسلامي، والعالم الدولي بعامة بحمد الله ومنه وتوفيقه ورعايته.
ما رامها من حاقد أو حاسد
إلا انثنى في نحره ما يقصد
ولقد كانت الدولة السعودية في مرحلتها الثالثة، في أوائل القرن الثالث عشر الهجري بقيادة مؤسس (المملكة العربية السعودية) الملك الملهم والقائد المظفر الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود - طيب الله ثراه - على موعد مع مرحلة مشرقة من التاريخ الحديث؛ وذلك حين استعاد عاصمة الدولة (الرياض) صبيحة فجر الخامس من شوال عام 1319هـ؛ وانطلق يستعيد شمل الأمة ويلم شعثها، ويعيد لأرجاء البلاد سيرتها الأولى، ويثبت دعائم الدولة بعد انفراط عقدها بسبب الخلافات المقيتة والأهواء المهلكة، وتمكن من إرساء كيانها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي على أسس ثابتة قوية، بعمله الدؤوب، وتحديثه المنهجي لمؤسسات الدولة ومرافقها، متسلحا بخوف الله وتقواه، ومنتهجا سياسة العدل والإصلاح والاستصلاح للأفراد والقبائل والجماعات، وصارت المملكة مضرب المثل في المنعة والثبات والنماء والتطور، وتاج ذلك ما تتمتع به من (وحدة الأمة والشعب) القائمة على العقيدة والأخوة الإيمانية، فزال العناء وحل الهناء وتوطد العدل والرخاء بدل الفرقة والخوف والشقاق، وتواصل أمنها ورخاؤها بقيادة أبناء الملك عبدالعزيز وأحفاده الميامين البررة الذين واصلوا المسيرة وحملوا الأمانة بثقة وعزيمة وثبات ويقين.
وتواصلت المسيرة الظافرة إلى عهدنا الحاضر الزاهر عهد النهضة الحديثة والحزم والعزم والتمكين، والمحافظة على السيادة والمكانة؛ عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله - وسمو ولي عهده الأمين، رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- معتمدين في حملهم للأمانة وفي نهوضهم بالرسالة على قوة الله وتمكينه، ومستعينين بعونه وتوفيقه، ومسترشدين بهديه وتيسيره، ومتكلين على حوله وقوته وحده لا شريك له؛ فهو القاهر فوق كل شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومنه وحده تستمد القوة كما قال تعالى: {ويزدكم قوة إلى قوتكم}.
إننا ونحن نستعيد اليوم ذكرى نعمة التأسيس المجيدة، ونستعيد معها تذاكر ما كانت عليه وما هي عليه هذه الدولة العتيدة من عقيدة صافية وقيم ومبادئ سامية، وما تعالت عليه من عصبيات قبلية وأهواء حزبية، وجانبت البدع الخرافية، مستندة على شريعة سمحة، وميزان عدل قويم، آخذة بمزيد من العلم والتعلم وتنمية المجتمع وتحديث المناشط والمشروعات والاستثمار لمزيد من التقدم والتطور والتحديث المستدام المستمر في شتى المجالات والميادين النافعة للإنسان والبلاد، في سياق رعايتها لمواطنيها وتحقيق مصالحهم، كما تتشرف بخدمة الحرمين الشريفين، وتأمينهما، وتأمين حدودهما؛ التي هي حدود السعودية من كل جهاتها، ورعايتهما، وتسهيل وصول الركع السجود إليهما، وقاصديهما من حجاج وزوار، في راحة وأمان، ويسر واطمئنان؛ وفي ظل ذلك يعيش الشعب ودولته، وتعيش الدولة وشعبها، في أمن وأمان، وفي طمأنينة واستقرار.. يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، وإنه لأمن باذخ أصبح وبما تحقق في ظله من تقدم ورخاء وازدهار مضرب المثل في أنحاء العالم وموضع إعجاب القاصي والداني، ويكفي هنا أن نشير إلى أن (السعودية) جاءت (الأكثر أمانا) في مؤشر الأمان لمجموعة العشرين، كما أن رؤية المملكة (2030) وما أحدثته من حراك إيجابي عظيم، وهي الرؤية المبدعة التي أطلقها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وصارت محط الأنظار ومحل الإعجاب والاحتذاء، كما أن المملكة العربية السعودية بقيادتها الحكيمة ومكانتها الوازنة، وسياستها العادلة، ومقدراتها الاقتصادية، وسمعتها الدولية، أصبحت الملجأ لحل القضايا التي تواجه الدول، وقبلتهم لحل المشكلات.
ومن المناسب هنا وفي سياق تذكرنا لنعم الله علينا ان نشير إلى بعض أقوال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، حفظهما الله، عن العلاقة العميقة الجذرية بين المواطنين والدولة والوطن؛ فقد قال خادم الحرمين الشريفين، يحفظه الله، في هذا المجال عن مشاركة المواطنين في شرف تأسيس الدولة السعودية؛(1): «لا يوجد أسرة أو قبيلة في هذه البلاد إلا ولآبائها أو أجدادها مشاركة فاعلة في توحيد البلاد وبنائها وتعزيز قوتها ورسالتها، والجميع في هذا الوطن جزء لا يتجزأ من هذا الإنجاز التاريخي لهذه الدولة المباركة وأسهم، حقيقة، في بنائها ووحدتها وتماسكها».
وقال سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، يحفظه الله، معبرا عن ثوابت السعودية: «إن وطننا الغالي الذي انطلق منه الإسلام، وأضيئت منه أنوار النبوة، سيظل متمسكا بثوابت الدين الحنيف دين الوسطية والاعتدال، محاربا بلا هوادة التطرف والإرهاب وفقا لما أكده سيدي خادم الحرمين الشريفين، عندما قال: «إنه لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالا، ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال واستغلال يسر الدين لتحقيق أهدافه» ولن يسمح لأحد أيا كان بأن يعتدي على سيادة وطننا أو يعبث بأمنه.
وفي ختام الكلام يكون
هنا للشعر مقام:
قال المواطن الشاعر عبدالرحمن بن صفيان، رحمه الله، في حربية رائعة له:
نحمد الله جت على ما تمنا
من ولي العرش جزل الوهايب
خبر اللي طامع في وطنا
دونها نثني إلى جا الطلايب
يا هبيل الرأي وين إنت وإنا
تحسب إن الحرب نهب القرايب
واجد اللي قبلكم قد تمنا
حربنا لي راح عايف وتايب
انهض الجنحان قم لا تونا
بننكلهم دروس عجايب
لي مشى البيرق فزيزومه إنا
حن هل العادات وأهل الحرايب
كان ما نجهل على اللي جهلنا
ما سكنا الدار يوم الجلايب
ديرة الإسلام حامينها إنا
قاصرين دونها كل شارب
وقال الأمير خالد الفيصل، وفقه الله، مصورا ما يقوم عليه نظام الحكم في السعودية من البيعة والشورى، المؤسسة على دستور الدولة، وهو القرآن الكريم(2):
أرسم والون لوحتي نثر وأشعار
وأساهم بفكري مع أرباب الأفكار
وأشعر بنشوة عز مع كل إنجاز
وأساهر أحلامي مساها والأسحار
وأذكر وصية والدي»خف من الله»
و»أرض الضمير» أخذتها سر وجهار
ما عزنا الله غير بالدين والشرع
دستورنا تنزيل علام الأسرار
ما صاغته لجنة ولا أملاه إنسان
بشر به المبعوث رحمة للأبرار
الحكم في الإسلام بيعة وشورى
والعدل بين الناس والأمن بالدار
يفرح بها العاقل ويزعل بها الشاذ
ومن خاف ربه هابته كل الأشرار
وأقول أيضا:
يا خادم البيتين يا درع الحمى
صنت البلاد وصنت بيتا أسعدا
اهنأ بشعبك أمة محمودة
يرعون عهدا صادقين على المدى
واهنأ بجند لا يضام حماهم
يسترخصون الروح فيهم للفدا
يحمون حدا والديار وما حوت
في مكة البلد الأمين لهم صدى
يفدون حجا والسلام شعارهم
خدموا الحجيج فدى وما هابوا العدا
يستسهلون الصعب في خطواتهم
الله وفق قد أعان وأيدا
نعم الحجيج برحلة ميمونة
أمن رعاها والنجاح تأكدا
جند تسامت في مساعيها وفي
فعل لها نجحت وأعلت مقصدا
الله ينصركم ويخذل من غوى
طبتم وخاب ضليلهم ومن اعتدى
الحق يعلو والأباطيل انثنت
مخذولة في ذلة ولها الردى
وأقول أيضا:
سلمان ذو الحزم المكين وعزمة
مضاءة لا تنثني وهما معا
ومحمد ذو همة تدني له
ما قد يروم ونظرة ما أبرعا
وطني وقاك الله دمت موفقا
ومؤيدا وبهديه متمتعا
الهوامش:
(1) الجزيرة - العدد 16810.
(2) المصدر السابق.
** **
- أ. د. محمد بن حسن الزير آل حمد