من التأسيس إلى توحيد المملكة رحلة تتجاوز أكثر من ثلاثة قرون، مرت بها الدولة عبر ملاحم عظيمة سطَّرها قادة ورجال عظماء أسسوا الدولة السعودية الأولى، ومن بعدها الدولة السعودية الثانية، وصولاً إلى الدولة السعودية الثالثة، على يدي المغفور له الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله تعالى - وتوحيدها باسم المملكة العربية السعودية.
وظهرت هذه الدولة العظمى، وأصبحت ذات أهمية كبرى عربياً وإقليمياً ودولياً، فتأثيرها في كل القضايا العربية والإقليمية والدولية، والملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- وأبناؤه الملوك العظماء واصلوا مسيرة نهضة هذه البلاد وبناء صروحها، حتى وصلنا إلى هذا الكيان الكبير في عالم اليوم، برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - حيت وصلت إلى ما وصلت إليه من تقدم ورقي يشهد به الجميع، والتطورات الكبيرة خير دليل وخير شاهد على ذلك.
والمملكة العربية السعودية دولة تحمل مبادئ راسخة لا تتغيير وثابتة على مدى الزمن، فهي دولة تعتمد نظاماً ملكياً عميقاً في علاقاته المتبادلة مع الشعب السعودي، والخطاب الملكي السعودي عبر تاريخه يرسخ هذا المسار، ومما زادها شرفاً على شرف مسؤوليتها عن خدمة الحرمين الشريفين وحجاج بيت الله ومعتمريه على مدار السنة، ثم إن الدولة السعودية ذات تأثير اقتصادي دولي، فهي أكبر منتج للطاقة في العالم، وعلى كل ذلك فهي دولة تحب السلام، وتسعى لاستقرار محيطها الإقليمي والدولي.
إن تأسيس الدولة السعودية بأدوارها الثلاثة كان استجابة طبيعية للتوحيد والاستقرار وحاجة الناس في القبائل والأقاليم إلى الأمن والأمان ومكافحة الفقر والمرض والجهل، وكانت العروبة الأصيلة واللحمة التي ربطت هذا الشعب بولاة أمره من أروع الأمثلة وأصدق النماذج في القرن العشرين.
واليوم الوطني هو أحد أهم المناسبات الوطنية التي تحتفل فيها المملكة العربية السعودية كل عام ترسيخاً لمفاهيم الوحدة، والودّ، والسلام، والتآخي بين مختلف الفئات من أبناء المجتمع السعودي، وللتعبير عن مدى حبّهم لوطنهم وولاة أمرهم ولبعضهم البعض في لحمة وطنية واحدة.
إن سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- أكد أن اليوم الوطني هو «اعتزاز بتاريخنا، وترسيخ لمكانة هذا الوطن». وفي هذه الذكرى الثالثة والتسعين يفاخر المواطن السعودي بهذا التاريخ وهذه المكانة إضافة للإنجازات المتميزة بقيادة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله - وبدعم من خادم الحرمين الشريفين لإحداث تحول شامل جسدتها رؤية المملكة 2030 وصياغة أهدافها الإستراتيجية بواقعية ومعيارية تواكب التطلعات العليا للمملكة والتحولات العالمية، فهو مهندس المرحلة وقائد النهضة.
إن ما دُوّنَ في رؤية 2030 يتجسد في الواقع السعودي يوماً بعد يوم في كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والترفيهية، وبذلك أصبح للمملكةِ أثرٌ قياديٌّ ورياديٌّ في منطقتها، ومكانةٌ دوليةٌ عاليةٌ بين الدول فأصبحت وهي تحتفل بيومها الوطني من أكبر عشرين اقتصاداً في العالم، فضلاً عن أنها ليست فقط المصدر الأول للبترول في العالم، بل لها الدور الريادي في إحداث التوازن في سوق الطاقة العالمي، وعبر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ما يجسد هذه المضامين بقوله:
«إننا في يوم الوطن نفتخر بما حققه وطننا الغالي من مكانة دولية وإسلامية وعربية، ودورٌ مؤثرٌ في تحقيق الأمن والسلم الإقليمي والدولي، وإنجازات اقتصادية وتنموية بعمل مؤسسي يهدف إلى تحقيق الازدهار الاقتصادي والأمن الاجتماعي بجهود أبنائه وبناته وبتضافر جميع الجهات الحكومية».
إن التحولات الدولية والإقليمية وضعت على كاهل الدول الكبرى والدول النامية العديد من التحديات، فعلى مستوى الأقطاب العالمية التي تصنع السياسة الدولية سعت لتقييم علاقاتها الإقليمية في القارات الخمس والتي منها آسيا والشرق الأوسط بالتحديد، ونتيجةً للحنكة السياسية والدبلوماسية التي تبنتها المملكة خلال عقود طويلة فهي أثبتت بكل جدارة أنها قادرة أن تكون قوة إقليمية يُعتمد عليها في المنطقة لإحداث الاستقرار والتوازن الإقليمي.
وللاستدلال على ذلك واستجابة للتحولات العالمية فقد أعادت المملكة تقييم سياستها الخارجية للتموضع دولياً لتحقيق إستراتيجيتها الإقليمية خصوصاً أنها عضو في مجموعة العشرين، والتي منحتها مكانة تستوجب أن تكون في مستوى الحليف الإقليمي الذي يُعتمد عليه، واستشهاداً على ذلك ما تقوم به المملكة من إحداث توازن عالمي في مسائل الطاقة التحرك بمبادرات دبلوماسية واحدةً تلو الأخرى بدءاً من إعادة العلاقات مع إيران واستضافة الحوثيين في الرياض بهدف محادثات السلام وإعادة دمج سوريا في جامعة الدول العربية ووقف إطلاق النار في السودان والسعي لاتفاق سلام في الحرب الأوكرانية بين روسيا أوكرانيا. وقد اتبعت المملكة في مبادراتها الدبلوماسية سياسة الاحتواء لضمان أمنها الإقليمي وأمن الطاقة.
والمملكة في سياستها الخارجية تلك سعت لتجديد إستراتيجيتها في علاقتها الدولية من الاعتماد على قطب واحد إلى تطوير سلة من العلاقات تجمع الأقطاب التي ستشكل النظام العالمي الجديد، فوقعت مذكرات تفاهم عدة مع أمريكا وروسيا والصين والهند والعديد من الدول الأوربية وغيرها لتحقيق استقرار الطاقة واستغلال الموارد وتنويع مصادرها والاستثمار طويل الأجل ليس للحصول فقط على الخدمات والمنتجات والتقنية والتطبيقية بل الذهاب لأبعد من ذلك بتوطين الصناعات وتنمية الكوادر الوطنية لتلعب دوراً في إدارة وتشغيل المصانع والمجمعات التقنية ومؤسسات المجتمع المدني.
وامتداداً لذلك جاءت رؤية 2030 لتوازي إعادة التموضع الدولي لتطوير الوضع المحلي للمملكة، وقد تبنت المملكة بقيادة سمو ولي العهد رؤية 2030، وهو برنامج شامل متكامل للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي بحيثُ تتحول المملكة إلى اقتصاد معرفي يخدم طموحاتها التنموية ويتكامل مع التحولات العالمية والذي يرتكز على استثمار رأس المال البشري بتوظيف التنمية المهنية التي ترتكز على مستجدات التقنية والمجتمع المعرفي والمعلوماتي.
وبالرغم من مواجهة العديد من التحديات لتلك الرؤية بانخفاض أسعار البترول وجائحة كورونا ونتائج وأزمات الخريف العربي، فقد استمرت رؤية2030، وحققت مرحلياً العديد من المستهدفات والمكاسب وكشفت عن العديد من التحديات المحلية التي تستوجب التعامل معها بتقييم وتطوير برامج الرؤية.
ونشير إلى تقرير إنجازات رؤية المملكة 2030 من 2016-2020، الصادر في تاريخ 25 إبريل 2021، عن مكتب الرؤية 2030 النسخة الأولى، نحو مجتمع حيوي تؤكده النسب الإحصائية، حيث بين التقرير أن نسبة تملك السعوديين للمساكن ما قبل الرؤية 47 % بينما في عام 2020م، أصبحت 60 %، وبينما مدة الانتظار للحصول على الدعم السكني ما قبل الرؤية كانت 15 عاماً، بينما في عام 2020م، أصبح الاستحقاق فوري.
وعلى سبيل المثال فإن توفير الاستشارات الصحية التخصصية خلال 4 أسابيع ما قبل الرؤية كانت بنسبة 50 % بينما في عام2020م، أصبحت 80 %، ونسبة تسهيل الحصول على الخدمات الصحية الطارئة خلال 4 ساعات منذ دخول المريض بوابة الطوارئ إلى خروجه، ما قبل الرؤية كانت بنسبة 36 % بينما في عام 2020م، أصحبت 87 %، وترتيب المملكة في تقرير السعادة العالمي ما قبل الرؤية 37، بينما في عام 2020م أصحبت المملكة متقدمة إلى رقم 21.
ومعدل وفيات حوادث الطرق لكل 100 ألف نسمة، ما قبل الرؤية كانت بنسبة 28.8 بينما انخفضت في عام 2020م إلى 13.5 وفاة لكل 100 ألف نسمة، ونسبة ممارسة الرياضة الأسبوعية للمواطنين السعوديين ما قبل الرؤية كانت بنسبة 13 % بينما أصبحت في عام 2020م، 19 %، وعدد الأماكن الترفيهية ما قبل الرؤية كانت 154، بينما في عام 2020م، أصبحت 277 مكاناً ترفيهياً، وعدد مواقع التراث الوطني القابلة للزيارة 241، بينما في عام 2020م، أصبحت 354 موقعاً تراثياً.
ومدة الحصول على تأشيرة الحج والعمرة ما قبل الرؤية 14 يوماً، بينما في عام 2020م، أصبحت تستخرج إلكترونياً في 5 دقائق، وسعة استضافة المعتمرين الأجانب ما قبل الرؤية 6.53 بينما في عام 2020م ، أصبحت 8.2 مليون معتمر.
ومن منجزات الرؤية نحو اقتصاد مزدهر، الإرادات غير النفطية ما قبل الرؤية 166 مليار ريال، بينما أصبحت في عام 2020م، 369 مليار ريال، ونسبة الناتج المحلي غير النفطي من الناتج المحلي الإجمالي ما قبل الرؤية 55 % بينما في عام 2020م، 59 %، وقيمة الاستثمار الأجنبي المباشر في السعودية ما قبل الرؤية 5.321 مليارات ريال، بينما أصبحت عام 2020م، 17.635 مليار ريال.
وعدد المصانع 7.206 مصانع، بينما في عام 2020م، أصبحت 9.984 مصنعاً، ونسبة التوطين في الصناعات العسكرية ما قبل الرؤية 2 % بينما في عام 2020م، 8 %، وتأسيس الشركات وإجراءات استخراج السجل التجاري ما قبل الرؤية 15 يوماً بمراجعة 8 جهات حكومية، بينما أصبح عام 2020م يُستخرج في 30 دقيقة فقط وبخطوة واحدة إلكترونياً، وتغطية شبكات الألياف الضوئية ما قبل الرؤية 1.2 مليون منزل، بينما عام 2020م أصبحت 3.5 ملايين منزل، ومشاركة المرأة في القوة العاملة 19.4 %، بينما في عام 2020م أصبحت 33.2 %، ونسبة الالتحاق برياض الأطفال ما قبل الرؤية 13 %، بينما في عام 2020م أصبحت 23 %، وعدد الأبحاث العلمية المنشورة ما قبل الرؤية 15.056 بحثاً، بينما في عام 2020م أصبحت 33.588 بحثاً، ونسبة العاملين من الأشخاص ذوي الإعاقة القادرين على العمل ما قبل الرؤية 7.7 % بينما في عام 2020م أصبحت 12 %.
ويسرني في هذه المناسبة أن أرفع التهاني والتبريكات إلى مقام سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسيدي ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - بذكرى اليوم الوطني الثالث والتسعين الخالد المجيد.
وفي الختام، من الأهمية بمكان القول إن على أبناء وبنات وطني العزيز الغالي، أن يستحضروا أقصى مستوى المسؤولية في الانتماء والاعتزاز بالوطن وتاريخه والحفاظ بكل قوة على مكتسباته، ليصبح رمزاً يعبر عن أصالة هذا الوطن وقيمته التاريخية العظيمة، ويضع الإنسان السعودي في مصاف الدول العريقة لتجسيد مثل هذا اليوم، نظراً لما يعنيه هذا اليوم، وليستبشر الإنسان السعودي بأن السعودية في هذه المرحلة أشد قوة وأكثر مواكبة للنظام الدولي، وانفتاحاً على مختلف حضارات العالم، ليس بالشعارات وإنما بالرؤية التي تُتَرجم إلى أرقام محققة في الواقع، ولديها نهضة في المجالات كافة في الحاضر والمستقبل، لذا يجب استشعار واستحضار مكانة المملكة ورمزيتها العالمية في كل مناسبة تكون فيها، فالمملكة العربية السعودية انطلقت من التأسيس إلى التميز وتحقيق المكانة الدولية اللائقة بها.
** **
- د. سعد بن سعيد القرني