في الأول من الميزان من كل عام تطل علينا ذكرى اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، وهي ذكرى عزيزة محفورة في وجدان وفكر كل مواطن سعودي، وهي قيام الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بتوحيد هذا الكيان الضخم وتبديل الفرقة والتناحر والفوضى إلى وحدة سياسية متكاملة. وفي الحقيقة أننا عند الحديث عن اليوم الوطني لا بد أن نتعرض لأهم المحطات التاريخية التي مر بها الملك عبدالعزيز وصولاً إلى تحقيق الحلم والوصول بالدولة إلى مراحل متقدمة من التطور والتقدم.
المحطة الأولى وهي الولادة والتنشئة الاجتماعية:
من أهم المحطات الحياتية لدى الملك عبدالعزيز هي ولادته والتنشئة الأسرية التي عاشها في صغره، وكان لها دور كبير جداً في صقل شخصيته، وتحديد توجهاته السياسية. ولد الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود في الرياض في شهر ذي الحجة عام 1293 ه الموافق (شهر ديسمبر 1876م)، في وقت كانت الأهواء السياسية متصارعة، والرغبات السياسية في قمة تنافسها وفي أعنف مراحلها، في فترة صعبة جدا من الفرقة والتناحر تجعل من الأخ عدواً، ومن الأصدقاء أضداداً وخصوماً.
وقد شاهد عبدالعزيز اختلاف الآراء من حوله والصدام الحاد بين الرغبات، وما جرى على المنطقة من صراعات ومشاكل وفتن، كما رأى المنافسين للدولة ومنهم محمد بن رشيد مستولياً على نجد، ورأى والده الإمام عبدالرحمن وقد ابتعد عن ميدان الفوضى السياسية، واتجه إلى الكويت، حيث استقر به الأمر أخيراً بالإقامة فيها، وظل هناك مدة تقرب من عشر سنوات.
وفي الكويت كان الملك عبدالعزيز مقربا من بلاط السلطة، فقد كانت أيام الشيخ مبارك آل الصباح مليئة بالمناورات والمحاورات، وكانت تنطبع أحداث الحياة السياسية في ذهنه، كما اشترك في بعضها، ولاحظ فيه الشيخ مبارك الصباح النجابة، وقرّبه منه، أفسح له المجال لحضور مجالسه، والاستماع إلى أحاديثه مع ممثلي الحكومات: الإنجليزية والروسية والألمانية والتركية، وهناك تعلم عبدالعزيز من المجالس السياسية، وحديث رجالات الدولة العديد من الأشياء الجديدة، منها ما يتعلق بأساليب العمل والتفكير، كفن القيادة وأصول السياسة الدبلوماسية، ورأى عن قرب ما يفكر به من حوله من أصحاب معارف، وموظفين، ورجال سياسة للدول الأجنبية، فرنسيين وإنجليز وألمان وروس. وطوال هذه المرحلة لم يكن حلم العودة إلى الرياض يفارق تفكيره، بل كان مستأسداً عليه، مترقباً الفرصة المناسبة لتحقيقه بمشيئة الله. ويمكن اعتبار هذه الفترة من حياته بمثابة الإرهاصات المبكرة لدخول الرياض، وجميع ما كان يمتلكه من خبرات ومعارف تراكمية، كان بمثابة السلاح المعرفي لدراسة كيف ومتى يتحقق الحلم.
المحطة الثانية: تحقيق الحلم ودخول الرياض:
خرج الملك عبدالعزيز من الكويت لاسترداد الرياض، وتمكن من ذلك عام 1319هـ / 1901 م، مع عدد قليل من رجاله وآل بيته، متجهين نحو الجنوب مرورًا بحدود الأحساء، وهكذا كان جيشه، حيث العدد والعتاد صغيرًا، لكنه - كما تعلم من والده ومن الدروس الحياتية أعتمد على الخطة الحربية المتقنة، وعلى النظرة الثاقبة وقوة الإرادة، ولم يكن متعجلًا في خطواته، لذا اختار معه سبعة من رفاقه لاستكشاف الوضع، ومحاولة الدخول دون خسائر كبيرة في الأرواح، وحينما نجح في دخول فصر الأمير عجلان الذي كان حينها أميرًا للرياض نادى عبدالعزيز ببقية رجاله الذين كانوا ينتظرون خارج الرياض.
كانت تلك هي الانطلاقة نحو التوحيد، والخطوة الجريئة الحاسمة التي لا يقدم عليها إلا متمرّس، ومتطلع للنجاح والتميز، دخل عبدالعزيز الرياض وهو يصبو لتوحيد الجزيرة العربية وبناء دولة هي امتداد للدولتين السعوديتين الأولى والثانية، فقد تأسس حكم أجداده آل سعود على مفهوم راسخ للوحدة الدينية والوحدة السياسية التي تكفل للدولة تماسكها واستمرارها، لذا كان من الطبيعي أن لا يتوقف طموح عبدالعزيز لاسترداد الرياض فحسب وإنما لاسترداد منطقة نجد بأكملها، ثم بعد ذلك إلى ضم بقية أجزاء الجزيرة العربية متتبعًا أثر أجداده.
توالت انتصارات الملك عبدالعزيز وتحقيق الوحدة التي ينشدها ويتطلع إليها فاستطاع جمع هذه المناطق من جنوب وشرق وغرب الرياض في منطقة واحدة. وكان يسير في توحيده للمناطق وفق خطط مدروسة ومحكمة، وتحقيقاً لأهداف يتطلع ويصبو غليها. وكانت كل محطة حياتية يمر بها ويتجاوزها بنجاح تدفعه إلى السير قدما بتوفيق من الله لتحقيق أهدافه وطموحاته. ولم تكن هذه المحطة هي آخر طموحات الملك عبدالعزيز، بل تبعتها مراحل حياتية أخرى فرضت على الصعيد المحلي والعالمي احترامه وتقديره، والتصفيق له ولجهوده إعجاباً وتقديراً واحتراماً.
المحطة الثالثة: تنظيم الدولة وإحداث النهضة التنموية للبلاد:
من أهم الأمور التي استحدثها الملك عبدالعزيز في مجتمع بسيط وأنتجتها عبقريته هي ظاهرة سياسية عسكرية وحضارية هي ظاهرة الإخوان والهجر. والهجر هي المناطق التي خصصت لاستقرار البدو الرحل، وأراد بها الملك عبدالعزيز تحضير البادية. تكون لكل قبيلة «هجرة» تستمد مياهها من مصدر مائي خاص بها، يتم إنشاؤه بالقرب منه، ولكل هجرة مسجد ومدرسة لتعليم الكتابة وتعاليم الدين، وهي بذلك عملية لتحضير البادية فريدة ومميزة من نوعها، إذ تتوافر فيه عوامل الاستقرار.
تنامى اهتمام الملك عبدالعزيز بالمواطن السعودي، من خلال النهوض بالخدمات المقدمة في الدولة من التعليم والصحة، والمواصلات والاتصالات. وكذلك النهوض الاقتصادي للبلاد. بعد اكتشاف النفط وما لحق بالدولة من تطور حيث قفزت المملكة العربية السعودية إلى مصاف الدول المتطورة، بعد أن أصبح البترول المورد الاقتصادي الرئيس للمملكة، حيث وظفت الدولة مواردها الجديدة في تزويد نفسها بوسائل حديثة للاتصال تمكنها من تقريب أجزائها وتعزيز وحدتها. وقيام الدولة على أسس تنموية شاملة تركيزها الأول والأهم هو الاهتمام بتطور الفرد السعودي.
هذه هي أهم المحطات التاريخية التي مر بها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وكانت هي القاعدة القوية لأبنائه ملوك المملكة العربية السعودية، والتي كانت مرتكزاً لهم من بعده في تحقيق تطلعاته في الوصول بالدولة إلى مراحل متقدمة من التطور والنهوض والرقي.
** **
د. مريم خلف شديد العتيبي - أستاذ التاريخ السعودي - جامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز - الخرج