* مكتب القاهرة د. محمد شومان شريف صالح:
القاهرة كالرياض.. تكره الأحلاف وتحب الوحدة العربية والتضامن الإسلامي.. لم تدخل العاصمتان معا في حلف مشترك ومع ذلك لم تختلف الكلمة بينهما أبداً، إلا فيما ندر! وعندما يكون الطريق ممتدا بين المدينتين وغير «ملغوم» يصبح هذا الطريق بمثابة الشريان الرئيسي لوحدة الصف العربي هذا ملخص ما يقوله التاريخ قديما وحديثا بشأن القاهرة الرياض، لمن شاء أن يستقرئ التاريخ.
في القرن العشرين وبعد انتهاء المغفور له الملك عبدالعزيز من مرحلة التأسيس، كانت القاهرة واحدة من العواصم العربية التي حرص على زيارتها عام 1944م. ثم كان إعلان ميثاق جامعة الدول العربية بمباركة العاصمتين عام 1945م.
في وصية الملك عبدالعزيز
وينسب إلى جلالة الملك عبدالعزيز أنه أوصى أبناءه وهو على فراش الموت بمصر، وقال إن عز العرب من عز مصر.. وإذا ضعفت مصر فقد ضعف كل العرب.. أو لا عرب بدون مصر ولا مصر بدون العرب.. تلك المقولة التي جرت مجرى الحكم والأمثال صدرت عن رجل ملهم يمتاز بالرأي الثاقب وبعد النظر، فكانت بمثابة خلاصة التجربة وحكمة السنين.
ليس من قبيل المبالغة أن أبناء عبدالعزيز من بعده جعلوا تلك المقولة ثابتا من الثوابت الاستراتيجية ومبدأ سياسيا يتجاوز الظروف والأزمات. وعندما تولى الملك سعود زمام الحكم كانت القاهرة أول عاصمة عربية يزورها ولسوء حظه وصل إليها في بداية الشقاق العنيف بين ثوار يوليو، وتحديدا بين الرئيس محمد نجيب قائد الثورة المعلن وبين جمال عبدالناصر خليفته في رياسة الجمهورية وقيادة مجلس الثورة. وحاول الملك سعود أثناء زيارته أن يقوم بالوساطة بين الثوار، فكان ينتقل ما بين منزل محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة طوال فترة إقامته المحدودة في مصر، ولكنه لم يوفق إلا في جمعهم على أن يؤجلوا الانفجار حتى يعود إلى بلاده، ولكيلا يقال بأنه يمالئ طرفا على حساب الآخر!.
في فترة حكم الزعيم جمال عبدالناصر شهدت العلاقات بين القاهرة والرياض حالة من المد والجزر إلى أن جاءت نكسة يونيو التي ينطبق عليها القول :«رُبَّ ضارة.. نافعة»!! ففي هذه المحنة العصيبة استيقظ العرب على حجم المأساة واختار زعماء الدول العربية العاصمة السودانية الخرطوم لتكون موئلا لتضميد الجراح، وتحت الشمس السودانية الساطعة التقى الزعيمان الكبيران ناصر وفيصل في مصالحة تاريخية مشهودة بحضور الرئيس السوداني محمد أحمد محجوب.
ذوبان الجليد
ومع حرارة العناق الأخوي بين الزعيمين ذابت جبال الجليد بين القاهرة الرياض، وحمل الفيصل على عاتقه مهمة مساندة مصر بكل غال ونفيس من حربها المشروعة لاسترداد سيناء وعقب الرحيل المفاجئ لجمال عبدالناصر، شعر الملك فيصل بفداحة الفقد في تلك المرحلة الحرجة وأعلن عن دعمه الكامل لخليفته الرئيس السادات.
في هذه المرحلة الحرجة وبينمامصرتحتشد بكل طاقاتها من أجل حرب التحرير واسترداد الكرامة، وصل إلى مصر في أواخرمايو عام 1972م النائب الثاني لجلالة الملك فيصل سمو الأمير فهد بن عبدالعزيز الذي التقى بكبار الساسة في مصر وعلى رأسهم الرئيس السادات. وقبل مغادرة الأمير فهد للقاهرة بيوم واحد حرص سموه على زيارة الجبهة برفقة وزير الحربية محمد أحمد صادق والتقى بعدد من المقاتلين من الضباط والجنود وسجل كلمة في أحد المواقع العسكرية قائلا: «في هذا اليوم الذي أتاح لي فيه الفريق أول محمد أحمد صادق، زيارة المناطق الأمامية من الجبهة، أجد نفسي مع إخوان لي، أدعو الله لهم بالنصر على عدو الله وعدو الأمة العربية وإننا في المملكة العربية السعودية ملكا وشعبا نقدم جميع امكانياتنا لمصر الشقيقة ولشعبها الحبيب، وكل ما نملكه من طاقات عسكرية، راجيا أن أزور هذه المنطقة وقد حفظها الله وحقق لها النصر». ثم كانت المعركة في العاشر من رمضان والموقف التاريخي المشهود لجلالة الملك فيصل واستخدامه لسلاح البترول غني عن البيان والشرح وفي مايو 1974م بعد أشهر من الانتصار وصل صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبدالعزيز إلى القاهرة.. وبالمثل كان حريصا في هذه الزيارة على أن يكون الذهاب إلى الجبهة على رأس أولوياته بالقاهرة.
وفي هذه المرة اختار الخطوط الأمامية بجبهة القتال في مدينة السويس الباسلة واستعرض مع اللواء أحمد بدوي النقاط الحصينة لخط بارليف في جنوب البحيرات وأمام ممر متلا وعيون موسى.. كأن الفهد كان يفي بالوعد الذي قطعه على نفسه بأن يزور الجبهة بعد أن يتحقق النصر، وفي كلمة تحية قال للجنود البواسل: «إننا نعتز بكم كرمز للقوة العربية، فقد كان انتصاركم في أكتوبر انتصارا للعروبة كلها ومجداً جديدا لها».
تحالف مستمر
ابتداء من العام 1974م وحتى عام 1978م كانت القاهرة محطة سنوية في جدول ولي العهد السعودي (باستثناء عام 77) وفي العام الأخير قبل حدوث القطيعة تذكر بعض المصادر أن صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبدالعزيز زار القاهرة أكثر من مرة في محاولة أخيرة لمنع تصدع وحدة الصف العربي إلا أن قمة بغداد فرضت القطيعة والعزلة بين العرب ومصر، على الأقل من الناحية الرسمية والشكلية، لأن علاقة القاهرة الرياض لا تعرف لغة القطيعة على المستوى الشعبي أبدا، فقلوب ملايين المصريين تهفو دائما الى البقاع المقدسة بالمملكة، وأكبر عدد من الحجاج على مستوى جميع الدول العربية يخرج دائما من مصر.. ودائما يجد في الرياض حفاوة الاستقبال ورحابة المصدر.
من الناحية الأخرى ساهمت ملايين السواعد من مصر في تعمير ونهضة المملكة.. في شتى المجالات..وبرغم عدم وجود سفير هنا أو هناك في فترة القطيعة.. لم يشكو مصري واحد من سوء المعاملة ولم تغلق الرياض أبوابها في وجه المصريين بحجة القطيعة. فالرياض كالقاهرة.. بلد الأمن والحب لكل ما هوعربي.. والدفاع عن سائر قضايا المسلمين أينما كانوا. إنها الحقيقة الخالدة التي حين يعيها القادة العرب تتجلى وحدة الصف، وحين يتم التفريق بين العاصمتين تكون القطيعة والمهاترات السياسية.
رغم أن الفهد التزم شكليا بالخط العربي العام بعد قمة بغداد «خط القطيعة» لمصر بسبب اتفاقيات كامب ديفيد، إلا أنه من الناحية العملية كان حريصا باستمرار على دعم أواصر المحبة والأخوة بين الشعبين، ولم يتأخر أبدا عن دعم مصر ومساندتها في أي موقف من المواقف.
عصر جديد
في هذه الفترة جرت مياه كثيرة كما يقولون، فاغتيل الرئيس السادات في يوم مجده عام 1981م وتولى أمانة المسؤولية الرئيس حسني مبارك، وما هي إلا شهور قليلة حتى فوجع العالم العربي برحيل جلالة الملك خالد، آخر الملوك الزاهدين. وكان من المفترض بحكم القطيعة أن يأتي عزاء مصر في الفقيد فاترا أو دون المستوى لكن التاريخ كان أقوى وعمق العلاقة بين القاهرة الرياض لا يتأثر بما هو عارض.. فما يحزن الرياض يحزن القاهرة وبالعكس.
على الفور أعلن الحداد رسميا في مصر لمدة 14 يوما وتم تنكيس الأعلام، وألغت قنوات الإذاعة والتليفزيون برامجها العادية لتذيع القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وبادر الرئيس حسني مبارك بإرسال برقية عزاء، :«إن الأمة العربية والإسلامية فقدت بوفاته واحدا من رموز التضامن العربي والإسلامي». .ولقد فقدت جمهورية مصر العربية أخا عزيزا كريما وقف معنا في مسيرتنا من أجل تحقيق كل أمانينا الوطنية والقومية وشعب جمهورية مصر العربية يدعو الله تعالى أن يتغمد الراحل الكريم برحمته الواسعة وأن ينزله منازل الصديقين.
وقرر الرئيس مبارك أن يسافر بنفسه لتقديم واجب العزاء على رأس وفد رفيع المستوى.. لم يتلفت إلى العلاقات الدبلوماسية المقطوعة ولم ينتظر موافقته من السعودية لزيارتها، مرتفعا بذلك فوق الصغائر والتمسك بالرسميات، لأن مابين القاهرة والرياض يفوق كل بروتوكولات السياسة! ,وصرح الرئيس قبل مغادرته الرياض أنه بالرغم أن الظروف محزنة لوفاة الملك خالد إلا أنه يعز عليّ شخصيا، كما يعز على الشعب المصري أنني لم أحضر للرياض منذ أربع سنوات، وقال : إنه يعتبر هذا حاجة كبيرة لأنني معتاد على الحضور إليها بين الحين والحين ذلك لأن لي هنا أصدقاء وإخوة في مقدمتهم جلالة الملك فهد بن عبدالعزيز والأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد».
قال مبارك هذه التصريحات بعد أن قدم واجب العزاء والتقى بخادمين الحرمين الشريفين في اجتماع دام ما يزيد عن ساعة. وهذا يعني أن القطيعة كانت حبرا على ورق، على الأقل بين القاهرة الرياض، وهوما انتبه إليه الكثير من المحللين حين قالوا: إن هذه الزيارة ستعجل بعودة مصر إلى العرب وأن الرياض ستكون المبادرة والفاعلة لتحقيق وحدة الصف وجمع الشمل.
جهود مشرفة
وصدق استشراف المحللين للمستقبل؟ فقد كان للملك فهد موقف تاريخي مشهود في مؤتمر عمان بالنسبة لقرار حرية كل بلد عربي في إعادة العلاقات الثنائية مع مصر.وهذا يعني أن الرياض كانت آخر عاصمة عربية تقاطع إن جاز أنها قاطعت وأول عاصمة عربية تفتح الطريق أمام عودة القاهرة.. عودة العرب للعرب.. ومنذ هذه اللحظة التاريخية تمت إعادة الترتيبات داخل البيت العربي وعادت جامعة الدول العربية إلى القاهرة قلب العروبة النابض. وعلى المستوى الرسمي بين البلدين لم يتأخر خادم الحرمين الشريفين بأصالته المعهودة عن دعم مصر إبان الأزمة الاقتصادية عام 1986م وأهدى الشعب المصري شحنة ضخمة من القمح.
وفي أواخر ديسمبر عام 1987م وفد إلى مصر ضيف كبير من الرياض على رأس وفد رفيع المستوى هو صاحب السمو المكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس الوزراء. وبعد اسبوعين فحسب، وتحديدا في يناير 1988 كانت الزيارة التاريخية للرئيس مبارك إلى الرياض. ثم توالت زيارات المسؤولين في كافة المجالات.
وفي أواخر مارس 1989م، وبينما كانت مصر تحتفل بعودة طابا وتحرير آخر شبر من ترابها الوطن، وصل إلى مصر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز في زيارة تاريخية تتوج ما بين البلدين من روابط عميقة.
وكان الاستقبال أسطوريا يليق بمكانة خادم الحرمين الشريفين في قلوب المصريين حكومة وشعبا ورئيسا، فازدانت القاهرة بأقواس النصر وخرج الصغار بأغصان الزيتون وفرق الموسيقى والخيالة وقدمت الطائرات المصرية عرضا في المطار فرحا بوصول طائرة خادم الحرمين على مدار خمسة أيام كانت قلوب المصريين تنبض بالفرحة والأيادي تلوح وتهلل لموكب خادم الحرمين الشريفين وهو يستقل القطار من القاهرة إلى الأسكندرية، وكان جلالته حريصا على زيارة مدن القناة الباسلة وخرجت جماهير الإسماعيلية والسويس عن بكرة أبيها احتفالا بقدوم خادم الحرمين الشريفين.
ويكفي الاطلاع على افتتاحيات الصحف المصرية وما كتبه كبار الصحافيين حتى يتأكد للمرء ما يكنّه الشعب المصري لخادم الحرمين الشريفين من مشاعر دافئة وصادقة.
في افتتاحية الأخبار كتب سعيد سنبل: استقبلت مصر وشعبها، خادم الحرمين الشريفين الملك فهد، ملك المملكة العربية السعودية بحرارة ودفء، وترحيب صادق، نابع من القلب غير مصطنع.
وكتب موسى صبري: تفجرت عواطف المصريين والمصريات في استقبال خادم الحرمين الشريفين الملك فهد وعواطف الملايين لا يمكن ان تفتعل، ويستحيل أن يوجهها أحد، ولا تفسير إلا أنها صادقة في انطلاقاتها.
وكتب أحمد زين في عموده بلا مشاكل شعب مصر كله يرحب بزيارة الملك فهد خادم الحرمين ويحس أنها زيارة كان القلب يتمناها منذ وقت طويل، فالعلاقة بين مصر والسعودية هي رباط وثيق يربط بعمق في التاريخ.. وهو رباط لا يمكن أن تؤثر عليه أحداث مهما كانت أو تهزه عواصف مهما عنفت.. فهو قوي متين ويزداد قوة ومتانة مع الزمن.
وفي افتتاحية الجمهورية كتب محفوظ الأنصاري: لقد أثبت التاريخ وأكد أن العلاقات الطيبة والصافية بين القاهرة والرياض، كانت دائما عاملا إيجابيا في دفع مسيرة العمل المشترك.. وكانت عنصرا مؤثرا.. في مواجهة المخططات والأحلاف الموجهة ضد الأمة العربية..
وكتب سمير رجب: اشتهر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز.. ملك السعودية.. بدعوته الصريحة والجادة للتضامن العربي.. وطالما حذر من خطورة النزاعات، والفرقة على كيان الأمة بصفة عامة ومواقفه في هذا الصدد واضحة، ومعروفة.
وفي عموده «كلمة حب» قال محمد الحيوان جريدة الجمهورية: أهلا بخادم الحرمين .. يا خادم الحرمين أهلا بك في بلدك الثاني.. أهلا بك في القاهرة عاصمة العرب.. وقلب العروبة.. القاهرة التي تتلهف على زيارتك لأنها تعلم جيدا بكل العقل والمنطق والتاريخ أن لقاء القاهرة مع الرياض يخدم دائما مصالح العرب والمسلمين.. وأن أي سحابة صيف بينهما تنعش آمال أعداء العرب وأعداء المسلمين.
وكتب مكرم محمد أحمد في افتتاحية المصور: أهلا بخادم الحرمين في مصر، تحف موكبه، أينما حل في ربوعها، فرحة المصريين لأنهم يرون في الزيارة بشارة أمل، بأن غدا عربيا أكثر زهوا يمكن أن يشرق، لو أن القاهرة والرياض معا، يد تؤازر أخرى.
هذه مقتطفات من فيض الاحتفال بالزيارة المباركة التي لا يمكن أن تُنسى.. فكل صبي مصري سوف يتذكر أن خادم الحرمين الشريفين أهداه مصحفا يتلو فيه (وصلت سبع طائرات سعودية أثناء الاحتفالات وعلى متنها مليون نسخة من المصحف الشريف هدية لتلاميد المدارس المصرية).
وكل مريض في مركز الكلى بالقصر العيني سوف يدعو للملك فهد حفظه الله بالخير والبركة وطول عمر (افتتح الملك فهد مركز فهد بن عبدالعزيز لعلاج القصور الكلوي، وجراحته بالقصر العيني).. وكل مسلم سيدخل الى الجامع الأزهر سوف يدعو للملك فهد بالبركة وطول العمر (تبرع الملك فهد من أجل ترميم وتطوير الجامع الأزهر بعشرة ملايين من الجنيهات) وكلها مواقف تدل على عمق ما بين القاهرة الرياض.. فمعا بدأت العاصمتان عقد التسعينات يدا واحدة.
معا كانت القاهرة الرياض من أجل قمة عربية لكل العرب.. معا كانت القاهرة الرياض من أجل وحدة لبنان وجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن أراضيه.. معا كانت القاهرة الرياض ضد غزو العراق للكويت.. معا من أجل دعم الانتفاضة المباركة.. معا ضد أطماع التوسع الصهيوني.. معا قلبا وقالبا، يدا بيد، من أجل غد أفضل للأمة العربية ومستقبل مشرق لشعوب العالم الإسلامي المشدودة بمشاعرها دائما صوب القاهرة الرياض.